كلمات
كلمة توكل كرمان في مؤتمر القيادة التحولية والمرونة العصبية.. إطلاق العنان للإمكانات - إيطاليا
في بداية كلمتي أود أن أقول أنني سعيدة لوجودي بينكم اليوم للمشاركة في فعالية متميزة تناقش التطور في علم الأعصاب وتحديدا المرونة العصبية، وتربط هذا التطور العلمي بالنقاش حول القيادة التحولية وطبيعة عالمنا اليوم الذي يتسم بالتدفق المعلوماتي الهائل والتطور المعرفي المستمر.
أرى هذا التبادل للأفكار والآراء بين المهتمين بالعلم والناشطين والقيادات المجتمعية والمدنية مهما ومشوقاً ومفيداً بما يقدمه من تبادل معرفي وتعزيز النظرة الكلية لمجتمعاتنا والتغييرات الممكن إحداثها في نظمنا وحياتنا في كافة مناحيها.
أحيي جميع الحاضرين وهنا ، وأخص بالذكر أطباء الأعصاب الدوليين وأخصائيي التصلب المتعدد (MS) الذين قدموا من جميع أنحاء العالم للمشاركة في هذا المؤتمر.
التغيير والتفاعل المتبادل هو القانون الذي نتعلمه من تطور العلوم ، وهو نفس الدرس الذي نتعلمه من حكماء وفلاسفة عاشوا قبل آلاف السنين.
المرونة العصبية للدماغ، هذا الإكتشاف الثوري في مجال علم الأعصاب يعلمنا الكثير، ويجعلنا ندرك مرة أخرى أن كل النظم تفاعلية ولا يوجد طرف يؤثر على متلقي سلبي يقع في الطرف الآخر.
تفكير الإنسان وخياراته تؤثر في تغيير طريقة عمل دماغه. أليس الأولى أيضاً أن يؤثر تفكيرنا وخياراتنا في تغيير نظُمنا وطرائقنا في التعليم والسياسة والإقتصاد ومجالات الحياة عموما.
هذا ما ينبغي للقادة اليوم أن يستوعبوه. الحقيقة والمبادرة لا تأتي بطريقة فوقية من طرف يملكها إلى آخر سلبي يتلقاها كما هي.
تأهيل المتلقيين وتجويد المعرفة لديهم شرط أساسي للمشاركة الفعالة والنشاط وبناء مجتمعات تفاعلية ديمقراطية تتمكن فعلاً من إدماج القرارات العامة بمشاركة شعبية فعالة وإيجابية.
أرى أن تنمية جهودنا في تمكين مجتمعاتنا من المعرفة بكل ما يواجهها من مشكلات وقضايا ، مهمة تضع نفسها أمامنا جميعاً كافراد ومنضمات وفئات مجتمعية ومجتمع مدني.
إن الاهتمام بنظام الرعاية الصحية المتكامل مع البيئة والطبيعة من حولنا يمثل معيارا بين طريقتين للتفكير ومنهجين للحياة. الأول آلي قائم على طريقة تفكير لا تعير اهتماما بالبيئة والمناخ، ويقوم على التناقض مع الطبيعة والنظام البيئي ولا يعيرها أي إهتمام. والثاني منهج حيوي يهدف إلى الإنسجام مع النظام البيئي الطبيعي والتكامل معه والحفاظ عليه وليس تدميره .
إن الحياة عملية إبداعية تتسم بالتعقيد والتنظيم الذاتي والأنظمة الشبكية، حيث كل شيء يؤثر في كل شيء ويتأثر به. كل شيء موجود هو في الواقع نظام ديناميكي يتحرك ويتغير باستمرار. يحدث التلوث والتدمير البيئي عندما لا يتم احترام الطبيعة ووئامها وتحديد الأولويات المناسبة للتكامل معها.
يوم بعد آخر تتسع المعرفة التي تراعي التكامل بين المجتمعات الإنسانية والطبيعة من حولها. هذه النظرة الجديدة تعيد تعريف الصحة باعتبارها توازنا طبيعيا نحصل عليه بمراعاة التوازن مع البيئة الطبيعية من حولنا، والتكامل معها لا تدميرها والعيش ضداً عليها.
لقد تشكلت روابط شبكية عبر العالم ضمت شبكات متنوعة تضم منظمات مدنية وشبكات حقوق الانسان والمدافعين عن البيئة وتيارات سياسية تتبنى رؤى تدعو الى وقف تدمير النظام الطبيعي وتنادي بإعادة صياغة حياتنا بالإنسجام مع النظام البيئي الطبيعي وليس خصما منه وحربا عليه.
انه توجه واحد سنبني تحالفاته العابرة للقارات والجنسيات، توجه ينطوي على رؤى مشتركة حول المناخ والنظام البيئي ومنظوراتنا لإعادة صياغة حياتنا بالتكامل مع البيئة من حولنا لا ضدا عليها وتدميرا لها.
توجه عالمي يمتد من النضال من أجل حقوق الانسان والديمقراطية والعدالة وحقوق المرأة إلى موقف يعطي أهمية أكبر للتكامل بين المنظومات البشرية والمنظومة البيئية الطبيعية.
ان الاستقرار البيئي والاقتصادي والنظام الصحي، ينبغي ان يكون توأم المنظور البيئي للطبيعة والمناخ.
كانت الحياة في انبثاقها الأول قائمة على هذا التكامل بين حياة البشر والشجر والحيوانات والنباتات. وجهودنا اليوم تستند لهذه النظرة التكاملية، آملين أن تقربنا ولو خطوة بعد الأخرى من هذا الإنسجام المفقود والبعيد عن نمط حياتنا اليوم.
"إن الأجسام التي تطورت على مدى ملايين السنين مع القدرة على الحفاظ على صحتها وتنظيمها الذاتي لم تعد تعمل بشكل مثالي. على الرغم من أن أجسامنا تعرف كيف تنمو وتُشْفى وتعتني بنفسها، وعندما لا يتم إيلاء الاهتمام المناسب للتغذية والتمارين الرياضية والنظام الغذائي، تظهر مشاكل مثل السمنة والسكري وأمراض القلب."
فرض المنظور الجديد للصحة البيئية القائم على ضرورة التكامل بين نشاطاتنا البشرية والطبيعة، رؤية ليس بإمكان عالم اليوم تجاوزها إذا أراد البقاء والإستدامة.
ان المجتمعات البشرية في عالم اليوم بحاجة اكثر من أي وقت مضى إلى تصميم أشكال حياتنا وفق هذا التكامل بين الحياة البشرية والبيئة من حولها، النظام الصحي والأعمال والاقتصاد والتعليم والتجارة والصناعة، بطريقة تضمن التكامل مع الطبيعة وتحد من التدخل المدمر، وتحد من الإضرار بقدرات الطبيعة وقدرتها المتأصلة فيها القادرة على إبقاء الحياة وضمان إستدامتها.
إن هذا التكامل الذي نسعى إليه يتبلور في عالم اليوم باعتباره ضرورة حياتية لا ترفاً فائضاً عن الحاجة.
إننا نتطلع إلى إرساء قواعد جديدة للعلاقات الدولية وحقوق الإنسان والتعليم وتنظيم التجارة العالمية والإقتصاد بطريقة منظومية جديدة تتجنب الصراعات المدمرة، وتحافظ على صحة البيئة وتحمي مصالح الدول الفقيرة وتصون الطبيعة وتمنع الإضرار بها وتجرمه.
في هذا العصر الذي يتسم بانتشار المعلومات والاتصال المستمر، تم دفع حدود الفهم البشري إلى ما هو أبعد من الحدود السابقة. لقد أدى الكم الهائل من المعلومات التي أصبحت الآن في متناول أيدينا إلى إعادة تعريف طبيعة تفاعلنا مع العالم. إن الحجم الهائل للمعرفة وتنوعها جعلنا نتصارع مع الأسئلة التي يبدو أنها تتضاعف مع كل لحظة تمر.
اننا نعيش في عالم يؤدي فيه التدفق الهائل للمعلومات إلى تشويش الرؤية لدى أعداد هائلة من البشر وسلبهم القدرة على التمييز والإختيار من بين ما يعرض أمامهم من معلومات.
لقد أدى التضليل والمعلومات الزائفة إلى فقدان الرؤية في عالم تختلط فيه الحقيقة بالأكاذيب. التضليل هدفه إخفاء الحقائق وسلب الجماهير قدراتها على إدراك أنها تتعرض للخداع.
التحديات العميقة التي نواجهها في عصرنا تذكرنا بأنه بينما نبحر في هذا العصر من وفرة المعلومات، يجب علينا أيضًا أن نواجه الارتباك المتأصل الذي يصاحب ذلك. نجد أنفسنا نقف على رمال متحركة، دون أي نقاط مرجعية ثابتة في سعينا للفهم.
هذا التدفق المهول للمعلومات ينبغي ان يقابله رفع مسؤولية المتلقي وقدرته على الإختيار والتصنيف ومعرفة ما يحتاجه من بين ما يواجهه يوميا من معلومات هائلة. ان يمتلك المعرفة لمعرفة ماهو حقيقي وماهو مزيف. ان يدرك انه طرف فاعل في معادلة هو جزء مؤثر فيها.
أعصاب البشر مشدودة كل لحظة إلى شاشات لا تمنحهم فرصة لإلتقاط الأنفاس. لعل ذلك له علاقة بانتشار التصلب العصبي والأمراض. الإنسان لم يعد يجد الوقت الكافي للتأمل والنظر في الطبيعة من حوله. يواجه الناس في العالم المعلوماتي تحدي مهم يتعلق بقدرتهم على التعامل مع المعلومات المعروضة وتجنب تأثير الأكاذيب والمعلومات الزائفة.
رفع قدرات الناس على التعامل مع التدفق الهائل للمعلومات مهمة ذات أولوية أمامنا. كل مجالات الحياة تتأثر كثيرا بتشويش معرفة الناس بالقضايا والأحداث والأمراض وفي كل مجالات الحياة.
التطور العلمي في المرونة العصبية وتأثير تفكير الناس على أدمغتهم المتسمة باللدونة العصبية وبالتالي على أمراضهم العصبية يمثل ثورة في علم الأمراض والمنظور التقليدي للمرض. إن نجاحكم في إدماج هذا التطور العلمي في حياة المرضى، والمعرفة العامة للناس، يضعكم في مواجهة مع أفكار سائدة رسخت الإعتقاد بأن العلاج يأتي كلياً من خارج المريض، من الأطباء والعلاجات والوصفات الجاهزة. هذا التطور في علم الأعصاب يتطلب ثورة في الوعي عند المرضى والجمهور عموما. تأثير التدفق المعلوماتي الهائل يصنع أفكارا متضاربة ويشتت معرفة الناس بالأمراض، مثلما يفعل في نشر الإضطرابات والتشوش في المعرفة العامة حول كل القضايا.
من هنا نجد أنفسنا معكم كمجال علمي متخصص في علوم الأعصاب والمرونة العصبية، في هم واحد يتوخى المساهمة في التفكير لإيجاد أفضل الطرق للتعامل مع التدفق المعلوماتي ورفع قدرات الناس للتعامل مع ما يعرض امامهم من معلومات.
لم يعد ذلك ترفاً بل ضرورة.
يجد الفكر الإنساني المعاصر نفسه في حالة من الفوضى المطلقة والتوسع المضطرب. لقد امتد عالم المعرفة إلى درجة غير عادية لدرجة أنه ترك عالمنا وقدراتنا المعرفية في حالة من الفوضى، ونكافح من أجل فهم الحجم الهائل لمدى انتشاره.
ومع ذلك، وسط هذه الفوضى الواضحة، هناك أيضًا إمكانية للبصيرة العميقة والتنوير. يمكن النظر إلى الفوضى والإضطراب الذي تسببه الوفرة المعلوماتية على أنها دعوة لاستكشاف واكتشاف وإعادة تعريف فهمنا للعالم. إنه يتحدانا لكي نتقبل المرونة والتغيير كمكونات أساسية للتجربة الإنسانية.
العالم يبدأ بالتغير من داخلنا وليس من خارجنا كأفراد فاعلون ونمتلك مصيرنا وإرادتنا. كل أحداث التاريخ ووقائعه دروس متكررة تؤكد هذه الحقيقة: أن إرادة الإنسان ورغبته في التغيير وقدرته على الاختيار هي ما يصنع عالمه. نوع العالم وشكل الحياة التي نرغب بها وتمتلئ إرادتنا بتحقيقها هي ما نلقاه أمامنا.
من المهم إدراك هذه الحقيقة وإعادة التأكيد عليها إذا كنا نريد تغيير واقعنا وعالمنا. لطالما كانت النظم والمؤسسات والدول والنظُم السياسية المتحكمة بدُولنا ومجتمعاتنا قائمة على ثقافة تُلغي وصنع الوسائل والاساليب المتجددة للسيطرة على التفكير ومخرجاته في محاولة للسيطرة على مسار التاريخ بالإمساك بعقول الناس واستلاب ارادتهم.
وكل جهد للتحرر وتغيير واقعنا وعالمنا نحو الأفضل ونحو مايريد غالبية المجتمع وما يحقق مصالحهم ويطلق قدراتهم، لابد أن يبدأ بتحرير ارادة الأفراد من الاستلاب والتشوهات واستعادة الذات الفاعلة في كل فرد فينا، الارادة التي تصنع المعجزات وتجعل المستحيل ممكنا.
هنا تكمن كل الحلول التي نبحث عنها غالبا خارج ارادتنا.
الكون كله داخلنا. ماهو في الأعلى موجود فينا نحن. وكل مايقيدنا ويحجب عنا سر عظمتنا وقوتنا فهو غريب عنا.
"إرحل يا سفاح" كانت عيني أم يمنية قتل صالح إبنها تختزل كل قوة هذا العالم وهي تكتب هذه الجملة الارادة التي لا تهزم بدم إبنها الشهيد وتنظر في عدسات الكاميرا في 2011 وكأنها هي السلطة لا تلك التي أختطفت روح إبنها وأطفأت روحه برصاص غدرها.
ومثلها كثير من الضحايا الذين ُقِتل أقاربهم وأحبائهم بيد المستبدون في اليمن واكثر من دولة عربية شهدت ثورات شعبية سلمية.
تذكرت هذه الواقعة وهي جزء من تجربتنا الحية لأدلل بها على تجلي الارادة والمرونة والتغيير في مجال معين من الحياة: الثورة.
وهي تقول ان الألم والحزن هما صفحة تتجلى فيها الارادة الحرة من اجل التغيير مثلما تتجلى في وقائع لا حدود لها تبدأ من تفاصيل حياتنا اليومية ولا تقف عند أبعادنا وعلاقاتنا المجتمعية والعامة ومواقفنا ازاء كل مايجري حولنا في هذا العالم. إن إرادة تمتلىء بالايمان بالحرية والعدل وكرامة الانسان لهي جديرة بالانتصار والبقاء والديمومة.
هذه القوة موجودة داخل كل فرد فينا. والعمل من أجل السلام والأمن والكرامة لكل إنسان يحتاج لإرادة وقوة أكبر من تلك التي تحتاجها الحرب والعنف والخراب والسيطرة والمصالح العمياء التي يضج بها هذا العالم ومجتمعاتنا ودولنا.
وتحرر الانسان يبدأ من ذاته وارادته والقوة الكامنة فيه. تغيير العالم يبدأ بالوعي بحياتنا وواقعنا والوعي بما نستحقه كبشر وإيقاظ ارادتنا النائمة ، لتكون قوتنا الدافعة لتغيير حياتنا وعالمنا نحو الأفضل
عندما يعي الانسان حجم القوة الهائلة فيه لا يعود ضحية حتى وإن هزمته الاحداث وتغلبت عليه. هذا الإصرار على الحياة وتغييرها كما نريد نحن نجده يوميا في عيون تلمع بالقوة في كل بقاع الأرض.
هناك وسط الحروب والدمار بشر أقوياء يتألمون ويموتون ويجرحون ولكن اعداد غفيرة منهم تعي ذاتها وسوف يأتي اليوم الذي يتحول فيه الإصرار المحتدم في العيون والمشتعلة جذوته في الصدور الى واقع أفضل وحياة خالية من القتلة والمجرمين.
وهناك في مجتمعاتنا وسط المدن السكانية المزدحمة بالصراع والانسحاق والإفقار بشر يمتلكون ارادة يكافحون بها من أجل الحياة الكريمة وتتقوى وتتعاظم ارادتهم كلما رأو القوى الباطشة والمصالح المتغولة تقف أمامهم ، وهذا الوعي وهذه القوة في نفوس الناس ستتحول يوما الى قوانين عادلة تحاصر الظلم والوحشية والقهر.
تاريخ البشرية هو تاريخ الارادة الحرة للإنسان الفرد. هذه القوة الداتية هي التي صنعت التاريخ والفلسفات والمعرفة والعلوم والحضارات والمدن والتطور والقفزات الكبرى في تاريخ البشرية. الانسان الفرد بارادته الحرة ووعيه وقوته الكامنة فيه هو الذي غير مسار التاريخ وصنع التحولات وأسس النظريات والاتجاهات الكبرى وفتح الطريق للتطورات العلمية والصعود الى القمر والطيران في الفضاء واختراع الكهرباء وكل ما نعيشه ونحياه بدأ كفكرة التمعت في ذهن متوقد وارادة في داخل إنسان فرد حولها الى واقع
إن كل كلمة نقولها وكل جهد نقوم به يبني ارادة التغيير نحو عالم افضل. فلنلتقي وتتشابك أيادينا كأخوة في الانسانية من كل البلدان والأديان والأمم لنعلن بصوت واحد عن ايماننا بعالم افضل يسوده السلام والمحبة والأخوة والتآزر والتضامن والتكافل والعدالة والأمان.
هذه هي القيم التي تبني حياة مشتركة لكل البشر أما الظلم والقتل والابادة والإخضاع والتدمير فمداها محدود وطريقها مسدود
***
في ختام كلمتي ، أحييكم جميعاً. وأقول لكم بأن هذه التطورات الثورية في العلوم ، وعلم المرونة العصبية واحدا منها ، تصنع عالمنا. تصل إكتشافاتكم وتؤثر فينا. شكراً لحضوركم هنا ، وشكراً لإصغائكم.
والسلام عليكم ورحمة اللة وبركاته..