كلمات
كلمة توكل كرمان في المؤتمر العربي 2023 بجامعة هارفارد
سلام عليكم أعزائي عزيزاتي.. نلتقي اليوم لتبادل الآراء في موضوع ذو أهمية لنا وللعالم من حولنا: مستقبل الديمقراطية في البلدان العربية والشرق الأوسط.
ما الذي يمكن أن نقوله اليوم عن مستقبل الديمقراطية، في عالم تسوده حرب تهدد العالم بشبح الأسلحة النووية، ومعها تعم كوارث طبيعية وارتدادات نحو الاستبداد والتسلط في الشرق الأوسط بعد سنوات قاسية من حروب الثورات المضادة للربيع العربي؟
ربما يقول قائل إن الديمقراطية لم تعد أولوية، وإن العالم يرتد الى عصور العنف والحروب الكبرى وصراع يسعى لتحديد وجه العالم والنظام الذي سوف يسوده خلال القرن الواحد والعشرين.
غير أن ذلك ليس مبررا لتهميش الديمقراطية. أرى العكس تماما. هذا الارتداد يُعلي من شأن الديمقراطية ويعيد لها الاعتبار. هذه التهديدات بالعودة الى عصور الظلام تقوي عزائمنا للتمسك بنظام انساني يتيح المشاركة والرقابة وينحاز للمساواة ولقوانين تحترم حقوق الإنسان وتصونها.
بقدر ما تظهر اليوم أهمية القوة وترسانات الأسلحة في الصراع العالمي، بالقدر نفسه ندرك اليوم أهمية ما راكمته البشرية من قوانين وتقاليد تضمن بناء الدولة على أسس تصون الحقوق والحريات وتؤسس الدولة ودستورها وقوانينها على احترام الإنسان واعتباره مناط بناء الدول بما يضمن حقوقه وكرامته وحريته وحقه في العدالة والمساواة والمشاركة والحياة بكرامة.
دعونا نخبركم بما نعتقده، وما أفصحنا عنه قبل أن يشهد العالم الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يصدم العالم اليوم. ربما تعتقدون أن تراجع الديمقراطية يحدث الآن لأن دولتان كبيرتان مثل الصين وروسيا وبجانبهما إيران وكوريا الشمالية، تقف اليوم في حالة استقطاب حاد ومواجهة مع الغرب الديمقراطي. هذه دول في حالة تضاد مع الديمقراطية وما يرتبط بها من حقوق وقوانين، لكن الحقيقة غير ذلك. لقد بدأ تجاهل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من سياسات الغرب الديمقراطي لا من ديكتاتوريات لا يراهن عليها أحد في دعم الديمقراطية.
برأيي، أن خذلان الغرب الديمقراطي للربيع العربي كان بداية لهذه التوجهات العالمية التي تتراجع فيها الديمقراطية وحقوق الانسان، مفسحةً المجال لصراعات من نوع مختلف تهدد بإعادة البشرية إلى عصور الظلام، بل وتهدد بتدمير الحضارة الإنسانية برمتها بحرب نووية، كما صرح مؤخراً رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف.
شيطنة الربيع العربي وتجريم الثورات الشعبية السلمية، وإلقاء اللوم عليها، هو فعل مضاد للديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.
كيف يمكننا أن نقول لشعوبنا إن الغرب الديمقراطي يساوره القلق على الديمقراطية ومستقبلها في منطقتنا، بينما الدول العربية الكبرى "أمريكا وأوروبا" قد خذلتنا في مواقفها، وأيدت الإنقلابات وحروب الثورات المضادة خوفاً من التغيير وما سوف ينتج عنه في البلدان العربية والشرق الأوسط.
أي توجهات تدعم التحولات الديمقراطية كان يفترض أن تكون معنا في الربيع العربي، لا أن تكون أسيرة للمخاوف. بإمكان دول الغرب الديمقراطي أن تضمن مصالحها في شرق أوسط ديمقراطي. هذا ممكن ومتاح. هذا سؤال جوهري: هل تعتمد مصالح دول الغرب في منطقتنا على وجود أنظمة إستبدادية وديكتاتوريات معادية لشعوبها، وميليشيات وحروب مستدامة؟ ما الذي يحصده الغرب الديمقراطي من وجود نظام ثيوقراطي متطرف مثل نظام الملالي في إيران؟ ما نتابعه اليوم من قلق غربي من موقف إيران المساند للغزو الروسي لأوكرانيا هو نتيجة لسياسات غربية لم تأخذ توجهات إيران بجدية أو لنقل أنها تجاهلتها لأن هناك من اعتقد انها لا تهدد المصالح الغربية وأن حدودها الكارثية ستبقى محصورة في البلدان العربية.
هل تستمر نفس السياسات العالمية التي لا ترى في توجهات إيران والسعودية خطراً على العالم، لا فحسب خطراً على الدول العربية التي تتورط فيها هاتان الدولتان بالحروب المباشرة وغير المباشرة.
يمر العالم بمرحلة فارقة تشهد حالة إرتداد عالمي غير مسبوق عن قيم التعايش والتآخي والديمقراطية وحقوق الإنسان ومجمل منظومة القيم الإنسانية التي بقيت هاجساً للبشرية عبر مئات السنين حتى تمكنت من بلورتها في منظومتها الحقوقية والقانونية منتصف القرن الماضي بعد حربين عالميتين داميتين أهلكت عشرات الملايين من البشر.
أنا هنا اليوم .. لاحدثكم عن ضرورة بناء توجهات متوازنة تنحاز لحقوق الشعوب والديمقراطية وحقوق الإنسان بدون تمييز بين دولة وأخرى.
الردة العالمية بإتجاه الحروب والعنصرية والكراهية والنزعات العرقية المتطرفة، تأتي كلها إمتداداً للردة المدعومة عالمياً في المنطقة العربية التي مثلتها الثورات المضادة للربيع العربي.
هل تريدوننا أن نتحدث عن مستقبل الديمقراطية في البلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط؟
هذا، بالنسبة لي، ينقل الحديث الى قصة الربيع العربي، الحلم والتضحيات والمآلات..
الحديث عن مستقبل الديمقراطية يضع أماني تساؤلاً كهذا: لماذا تواطأ الغرب الديمقراطي مع حرب اقليمية قامت بها ايران والسعودية في مواجهة ثوراتنا، وهي ثورات سلمية إنتزعت إحترام العالم، وفي جوهرها هي تطلعات لنظام ديمقراطي حديث؟
أيها الأعزاء:
إننا نقف أمامكم اليوم لنذكركم ونذكر أنفسنا ونذكر العالم بقضيتنا التي خرج الناس من اجلها في ثورات الربيع العربي، في عالم يمضي من جديد بوتيرة متسارعة باتجاه الحروب وتضخيم ترسانات الأسلحة الفتاكة وإحياء الصراعات الإمبراطورية والجيوسياسية بين الدول ونزعاتها للهيمنة المسلحة مخلفاً في الهامش قضايا الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وارادة الشعوب وحقها في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتغييرهم.
ان التمسك بحق الشعوب في اختيار حكامها والمشاركة في السياسة كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وبناء تحالف عابر للحدود والحواجز الدينية والعرقية والحضارية بين شعوب العالم للدفاع عن منظومة القيم العصرية، هي مهمة عالمية وليست فقط حاجة ملحة للشعوب العربية التي تواجه ثورة مضادة تهددها بمستقبل أكثر ظلاماً من الديكتاتوريات التي سادت في العقود الأخيرة من القرن الماضي.
لقد خرج الناس في بلدان الربيع العربي، وهم المقصيين والمستبعدين عن السياسة والحياة، إلى الساحات العامة في 2011 في فعل شعبي جماهيري تطلع الى ان يضع حداً لإستبداد متطاول تحول إلى رؤساء مؤبدين وجمهوريات وراثية عائلية وطائفية.
لن نمل من تكرار ماحدث للربيع العربي.
فشل ثوراتنا الشعبية هو انتكاسة لمستقبل الديمقراطية، الذي نلتقي اليوم لتبادل الاراء حول احتمالاته.
لقد قال الربيع العربي كلمته: إن في هذه المنطقة من العالم شعوباً تمور برغبة جامحة للحاق بالعصر وقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان عبر تحول ديمقراطي حقيقي يحول الدولة من أداة سيطرة وقمع وقتل جماعي للمجتمع وطموحاته ومقدراته إلى حيز يتشارك كل المواطنين في صنع السياسة من خلاله، وينتجون توافقاتهم وإجماعاتهم عبره ويديرون خلافاتهم وتنافسات برامجهم تحت رعايته كمؤسسة جامعة لكل المواطنين.
لم تكن ثوراتنا الشعبية نزوة عابرة تقفز على الواقع بل حاجة واقعية تأخرت سنوات طويلة حتى ظن الطغاة أنهم هم قانون الحياة وليس الحرية والكرامة والعدالة.
أعزائي..
عزيزاتي..
كل ماهو أمامنا اليوم ينبيء بمزيد من التراجعات عن الديمقراطية. لا أريد أن أقول أن الإرتداد عن الديمقراطية عبر العالم قد بدأ مع الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن بإستطاعتي القول إن ذلك الغزو وما أدى إليه قد انتقل بنهج الارتداد العالمي عن الديمقراطية إلى نقطة حرجة تؤسس لحقبة زمنية
جديدة مناقضة للديمقراطية وحقوق الإنسان، ومواجهات عالمية من الحروب والصراعات الحادة والأزمات الإقتصادية، وهو ما نعيشه ونشاهده في أوروبا والعالم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
إن الحروب وسياسة القوة والغزو تهدد العالم كله بسلسلة من أزمات الإقتصاد والطاقة والغذاءسيكون لها تأثيراتها على كل مجالات الحياة، ولعل من أبرز انعكاساتها تراجع الديمقراطية وحقوق الانسان في العلاقات الدولية، وانتشار مناخ ملائم للديكتاتوريات والشوفينيات القومية والعنصرية في أوروبا والعالم كله.
لست من الذين يميلون إلى التشاؤم، ولكن إنحيازنا لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان يحتم علينا إدراك مخاطر الإرتداد العالمي عن الديمقراطية وابتكار المبادرات الملائمة لمواجهة تأثيرات الحروب والصراعات العالمية وما تنذرنا به من احتمالات تغيير عالمي يرتد بالبشرية إلى صراعات لا تقيم وزناً للقيم الإنسانية وتعيد العالم الى زمن الحروب الوحشية والغزو والمذابح والقتل الجماعي.
ان مسؤولية العالم الديمقراطي في أوروبا وأمريكا في حماية الديمقراطية تضعه أمام تحديات كبيرة، ذلك ان مواجهة الفاشية لا يكون بالمضي معها في نفس طريق الإرتداد عن القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي ميزت العلاقات الدولية في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية وما شهدته من مآس مروعة هزت أوروبا والعالم.
نلتقي اليوم بينما تشهد أوروبا حرب غزو لم تكن تخطر على بال احد، وهو حدث يكمل قوس الارتداد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الدولة الحديثة الذي بدأ بتواطؤ الديمقراطيات الغربية مع الحروب المضادة لثورات الربيع العربي في العشرية الماضية.
ان عودة الفاشية لتهديد أوروبا ليس منقطع الصلة عما سبقه من احداث في الشرق الأوسط.
عندما يصمت العالم على الحروب الفاشية في مناطق بعيدة لا ترى الدول الكبرى انها تهدد أمنها، فإن عليه ان يتوقع انتشارها ووصولها إلى البلدان البعيدة التي اعتبرت في مأمن من حروب في الشرق الاوسط والعالم الثالث.
لقد وجدت الانظمة الانقلابية المستبدة والميليشيات الطائفية والجماعات المتطرفة من يعترف بها ويتصالح مع جرائمها؛ في الوقت نفسه أعلنت الحروب على الثورات الشعبية السلمية والمجتمعات التي رفعت شعارات التغيير والحرية والديمقراطية، وتجرأت على الخروج في وجه الانظمة القمعية الفاشلة.
ان التهديدات التي تواجه الديمقراطية وتواجه أوروبا والعالم تتطلب تغييراً هيكليا وإعادة نظر في السياسات العالمية.
ان التغيير والمرونة لمواجهة التحديات الجديدة يبدأ من تغيير التوجهات العالمية امام كل المخاطر المهددة للديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الحرية والسلام والإستقرار العالمي.
دعونا نكون صريحين ونقول إن التغيير يحتاج نظرة عالمية واسعة ترى صعود الفاشية خطرا أينما كانت، في الشرق الاوسط وافريقيا او في أوروبا والغرب.
ان عالم اليوم، واقصد النطام العالمي والدول الغربية الكبرى، قد التزم الصمت أمام أنظمة فاشية لأنها هناك في الجهات البعيدة التي لا تهدد أوروبا، وأعني ايران والسعودية على سبيل المثال، وكلاهما شن حروبا عدائية، وتدخلات تنشر الحروب الأهلية والإضطرابات وانهيار الدول وإحلال الميليشات كفاعل أساسي بديلاً عنها.
ان قضايا الديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان تأخذ حزمة واحدة ولا تجزأ بين عالم متحضر وآخر ينظر اليه خارج الحضارة والإنسانية.
متى ندرك اننا نعيش في عالم واحد تربطه مصالح متشابكة وعلاقات متداخلة ويتأثر بمصائره المشتركة مهما تنوعت؟
ان كفاحنا من أجل قيم إنسانية مشتركة تعلي من مكانة الديمقراطية وحقوق الانسان سيبقى هدفاً عالمياً يجمع البشر من حوله على إختلاف أعراقهم ودياناتهم ودولهم. ولمثل هكذا توجهات نجتمع هنا لنرفع صوتنا ونعبر عن إصرارنا لبناء رؤية عالمية متشابكة تعيد لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان مكانتها، وتعيد تعريف البشر بإنتماءاهم الإنسانية المشتركة والمصالح التي تجمعهم والمصير المشترك لحياتهم وعالمهم لا بصراعاتهم العرقية والعنصرية والحروب الفاشية التي تفرضها عليهم أنظمة فاشية ومغامرات شخصية لقادة متعطشون للحروب ولا يخلفون وراءهم سوى الجثث والمقابر والأرض الخراب.
مستقبل الديمقراطية في منطقتنا ليس منفصلاً عن وجهة الأحداث العالمية. الحرب والغزو الذي يهدد أوروبا ينذر باحتمالات تطور الحرب الى حرب عالمية ثالثة وانهيار الاقتصاد العالمي وسلسلة من أزمات الطاقة والغذاء. وفي مواجهة الانقلابات وحروب الثورات المضادة للربيع العربي والمستبدين والجماعات الطائفية والمتطرفة، نجتمع اليوم لنؤكد تمسكنا بقيم الحرية والديمقراطية ، ولنعيد التأكيد على تطلعاتنا لبناء عالم جديد تسود فيه القيم الديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة ، ويعمه السلام والأمن وروح المسؤلية والحرية.
ختاماً لكلمتي؛ أؤكد أمامكم أن الفاشية مهزومة وستسقط في مزبلة التاريخ، مهما كانت الأثمان التي تفرضها على البشرية من قتل وترويع وخراب. ان قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ستبقى ما بقي البشر على وجه الأرض.
وسوف تنتهي الفاشيات الجديدة كما انتهت سابقاتها. العالم الجديد لن يكون إلا ما نؤمن به.
المجد للكفاح الانساني المستمر من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان.