كلمات

المحاور: مرحبًا بكِ توكل كرمان. أعتقد أن رئيس لجنة نوبل، يورغن واتنه فريدنيس، قد قدّمكِ بالفعل كما ينبغي. فلنبدأ مباشرة. لقد فزتِ بجائزة نوبل للسلام في عام 2011، ما الذي مثله ذلك بالنسبة لك؟ هل غير حياتك؟ وهل كان ذلك التغيير نحو الأفضل، أم الأسوأ، أم كلاهما؟
توكل كرمان: أولًا، أنا سعيدة جدًا بوجودي في وطني الثاني، النرويج. وسعيدة جدًا بلقاء كل هذا الحضور، وخاصة الشباب. هل تتذكرون عندما أتيت عام ٢٠١١ وقلت لكم في ذلك الحفل الكبير "أحبكم"؟ حسنًا، ها أنا أكرر الشيء ذاته وأقول لكم: أحبكم كثيرًا. أنا سعيدة جدًا لوجودي معكم هنا، وأود أن أشكر النرويج على دورها المتميز في دعمها لمختلف شعوب العالم، الذين يدافعون عن حريتهم ويناضلون من أجلها.
ماذا منحتني جائزة نوبل؟ لقد منحتني الكثير. أهم ما منحتني إياه هو الاعتراف الدولي بكفاحي - كفاحي كتوكل، كفاحي كامرأة، كفاحي كحالمة ضد الديكتاتورية. وفي الوقت نفسه، اعترفت بكفاحنا كشعب في اليمن، وكفاحنا كجزء من الربيع العربي - شعب عانى بشدة تحت وطأة الاستبداد لعقود، وما زال يكافح ويضحي من أجل حريته.
إن هذا الاعتراف الدولي، من خلال جائزة مرموقة للغاية مثل جائزة نوبل للسلام، يحمل أهمية كبيرة — لكل الناس، لكل النساء، ولكل الشباب. فقد كنت شابة حينها... وما زلت شابة! [على سبيل روح الفكاهة] لذلك، كان هذا التقدير شيئًا يحتاجه الجميع فعلًا.
أولئك المناضلون على الأرض ممن يضحّون من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة والمبادئ السامية- ونحن جميعاً بحاجة إلى المجتمع الدولي والى مؤسسات رصينة مثل لجنة نوبل، أوصلوا لنا رسالة مفادها: لستم وحدكم. وكانت هذه هي الرسالة الأبرز التي وُجّهت إليّ وإلى أشخاص مثلي: لستم وحدكم. لذلك شكرا جزيلا لكم.
* في محاضرتك بمناسبة منحك جائزة نوبل للسلام، ذكرت أنك عندما سمعت خبر فوزك بجائزة نوبل للسلام، كنت في خيمتك بساحة التغيير بصنعاء، محاطةً بملايين الشباب الثائرين. هل يمكنكِ أن تعيدينا إلى تلك اللحظة وتشاركينا شعورك، وتعطينا لمحةً عن الربيع العربي من وجهة نظرك؟
كرمان: نعم، لقد كانت لحظةً عظيمة. نعم، أتذكرها جيدًا في ذلك الوقت. كان ذلك في السابع من أكتوبر – لكنه ليس 7 أكتوبر الذي يتداول اليوم- عندما فزت بجائزة نوبل للسلام. في ذلك اليوم كنتُ في خيمتي وفجأةً رأيتُ الشباب حولي يتراقصون. قالوا: "يا إلهي، يا إلهي، سلام، سلام - لقد انتصرنا!" وهتفوا: "لقد فزنا بجائزة نوبل للسلام!".
كانت تلك لحظةً عظيمة، لأن الديكتاتور كان وحشيَّاً للغاية في ذلك الوقت. كان يهاجم الشباب ويهاجم الثورة السلمية بشتى أنواع الأسلحة. ومع ذلك، قررنا جميعًا، كشعب يمنيّ، عدم الانتقام وعدم مقابلة العنف بالعنف، مع أننا كنا قادرين على ذلك، فاليمن بلد يمتلك فيه المجتمع أكثر من 70 مليون قطعة سلاح، وكان الناس قادرين على الرد. لكنهم لم يفعلوا.
كان ذلك، بالنسبة لي، مؤثرًا للغاية. لأنه لم يكن يتعلق فقط بسلمية الثورة، بل كان يتعلق أيضًا بنضال أطول بدأ قبل الثورة. منذ عام 2006، عندما كنت وحدي تقريبًا أجوب الشوارع ومعي عدد قليل من أعضاء الحركة المدنية اليمنية، كنت أدعو إلى التغيير. لم تكن دعوة للثورة بعد. صحيح أني تناولت الثورة في مقالاتي منذ عام 2006، لكن فكرة التغيير لم تكن قد تملكت الناس بعد. وكان الأمر صعبًا للغاية مع الأحزاب السياسية أيضًا.
لذا، عندما اندلعت الثورة، لم أرَ الانتفاضة فحسب، بل رأيتُ سلسلة الجهود السلمية التي أقنعت الشعب اليمني بعدم استخدام العنف، مهما كان العنف الموجه ضده. والآن انظروا إلى ما حدث: اعترف العالم أجمع بنا كمجتمع مدني، كشعب تظاهر سلميًا. كانت تلك لحظةً بالغة الأهمية.
نعم، في تلك اللحظة التي فزنا فيها بجائزة نوبل للسلام، أصبح ذلك التزامًا كبيرًا لنا. قال كثيرون إننا سنواصل ثورتنا سلميًا. وبالفعل، بفضل نهجنا السلمي، أجبرنا الديكتاتور على ترك السلطة من خلال المقاومة السلمية.
لكن ما حدث بعد ذلك كان قصة أخرى - قصة انتقام وثورة مضادة، بقيادة ثلاث دول في المنطقة: إيران، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
* في محاضرتك ذاتها في أوسلو عام ٢٠١١، ذكرتَ أن ثورة اليمن لم تكن معزولة عن الربيع العربي الأوسع. كما أشرت، مع بعض الأسف، إلى أنها لم تحظَ بنفس الفهم أو الدعم أو الاهتمام الدولي الذي حظيت به الانتفاضات الأخرى في المنطقة. بالنظر إلى الماضي، هل تعتقدين أن اهتمامًا دوليًا أقوى كان من الممكن أن يُحدث فرقًا في اليمن؟ بينما ذكرت أن بعض الاهتمام الخارجي كان سلبيًا، هل تعتقدين أن هناك أشكالًا من الدعم أو التدخل كان من الممكن أن تُسهم في تغيير مسار الأحداث؟
كرمان: أولًا، كان الربيع العربي نقطة تحول في التاريخ الحديث للشعوب العربية. لقد كانت حركة قادها شباب حملوا حلم التغيير ومسؤولية تحقيقه بعد أن أنهكهم الفساد والاستبداد والإخفاقات المتكررة، فقرروا أنه لم يعد يكفي مجرد الشكوى من الوضع، وأنه لم بد من التحرك.
كان اليمن جزءًا من هذه الموجة العظيمة، إلى جانب مصر وتونس وليبيا، ولاحقًا السودان والجزائر. وقد كنت دوماً أقول وأكرر بأن دولٌ أخرى ستلحق بركب الربيع العربي كون الشعوب لا تزال عازمةً على الانتفاضة السلمية ضد الديكتاتورية. في اليمن، كما في غيرها من البلدان، لم تبدأ الثورة فجأةً؛ بل سبقتها سنواتٌ طويلة من النضال مهدت الطريق لهذه اللحظة.
كان الربيع العربي يتمحور حول ذات المطالب التي نسمعها في أنحاء العالم المختلف: الحرية، والعدالة، والمساواة، وسيادة القانون، والديمقراطية. لا تزال هذه القيم حية في نفوس الشباب العربي اليوم، الذين يواصلون نضالهم ضد الديكتاتورية والهيمنة الأجنبية. وهنا أود أن أتوجه بتحية كبيرة للشعب الفلسطيني، الذي يعاني أشد المعاناة من الاحتلال البشع والإبادة الجماعية. هذا الشعب يسعى بصدق إلى الحرية والعدالة. جميعنا في المنطقة العربية نتطلع إلى اللحظة التي سننعم فيها بالحرية.
* توكل، لننتقل إلى نقطة أخرى، وأود أن أرجع الى محاضرتكِ بمناسبة حصولكِ على جائزة نوبل للسلام. لقد كانت محاضرة رائعة بالفعل. لقد عبّرت عن تفاؤلك بالمستقبل، مُشيرة إلى أن التفاهم سيحل تدريجيًا محل الخلاف، والتعاون سيحل محل الصراع، والسلام سيحل محل الحرب، والتكامل سيحل محل الانقسام. لقد تصوّرتِ عولمة خالية من الظلم والقمع والتمييز والاستبداد، تُعزز عالمًا يسوده الشراكة والتعاون والحوار والتعايش وقبول الآخر. وتساءلت أيضًا: "هل أنا أحلم كثيرًا؟" فهل أنت تحلمين كثيراً؟
كـرمـان: أنا لا أحلم كثيرًا، فإن كان الأمر يتعلق بالأحلام فأحلامي أكبر من ذلك بكثير. لكن السؤال هو هل سيتحقق ذلك الحلم؟ بالتأكيد، سيتحقق. لديّ نفس الفكرة، ونفس الحلم، ونفس الإيمان بأننا سنصل إلى لحظة تعيش فيها بلداننا في سلام وتعايش وقبول - ليس فقط في بلداننا، بل وحتى عالميًا.
أعلم أننا نعاني من تدهور الديمقراطية وتزايد الكراهية والعنصرية يوميًا. ومع ذلك، وكما آمنتُ بالشباب عام ٢٠١١، لديّ نفس الإيمان بالشباب اليوم. هذا يمنحني الكثير من الطاقة والتفاؤل.
دعوني أشارككم قصة: عندما بدأتُ الثورة في اليمن، وصفني الديكتاتور بالمجنونة، قائلاً إنه لا ينبغي الاستماع إليّ لأنني امرأة- وقالها على سبيل الاستنقاص. نشر شائعات كثيرة عني في صحفه وقنواته. حتى أنه حاول سجني.
إن والدي رباني تربيةً حسنة، وعلمني الشجاعة والجرأة والمساواة، وألا أنتظر شيئًا من أحد. عندما أصبحتُ شابة وبدأتُ بكتابة مقالات ضد الديكتاتور، نصحني في البداية بعدم فعل ذلك لخوفه عليا. عندما بدأتُ ثورتي، قال لي مرة أخرى ألا أفعل ذلك، لكنني ذكّرته بما علمني إياه. في النهاية، قال: "حسنًا، أنا معك".
خلال معركتي من أجل الحرية، شكّلتُ تحالفات مع الطلاب، وخاصةً طلاب الجامعات، وشجعتهم على الانضمام إلى النضال ضد الديكتاتور. لم يؤمن بي الكثيرون، بمن فيهم أعضاء الأحزاب السياسية. بعد سجني وإطلاق سراحي، زارني صديق من الاتحاد الأوروبي وأخبرني أنني سأموت وحيدًا، وأن أحدًا لن يدعمني. أخبرته أنني أتخيل ملايين الناس في الشوارع يهتفون بنفس الهتافات التي كنت أرددها، ويرفعون نفس الأعلام والزهور. في ذلك الوقت، كنت وحدي مع بضعة طلاب فقط، ولكن في النهاية، امتلأت شوارع اليمن بالملايين، معظمهم من الشباب.
أرى نفس الإمكانات في شباب مثلكم اليوم. أنتم تتراوح أعماركم بين 18 و20 عامًا؛ أنتم قادة المستقبل، وعليكم العمل لتكونوا قادة الحاضر إذا كنتم حقًا تريدون تغيير العالم. أعتقد أن هذا الجيل لا يعاني من نفس مشاكل الأجيال السابقة. لديكم رؤى للسلام والمساواة والتحول المناخي. أنتم القادة الذين سيبنون عالمًا أفضل. التحدي الوحيد هو أن يحدث كل واحد منكم نفسه قائلاً: "أنا من سيُحدث التغيير". وكما فعلتُ سابقًا، واجهتُ الكثير م الاستهداف لمجرد أنني امرأة. لكنني صمدتُ، وغادر ذلك الديكتاتور السلطة. أنا فخورةٌ بما أنجزتُه رغم وصفي بامرأةٍ فقط، امرأةٍ مجنونة، ومواجهتي لشتى أنواع الشتائم.
أودُّ أن أشكر النرويج على موقفها الحاسم في دعم الشعوب حول العالم الذين يسعون إلى الحرية والعدالة والتعاطف. اعتراف النرويج بفلسطين أمرٌ بالغ الأهمية يجب أن نقدّره. عليكم حمل هذه الرسالة لتحسين عالمنا، وتعزيز السلام، وأن تكونوا قادةً في بلدكم. شاركوا في الانتخابات، وانضموا إلى المنظمات، وكونوا صوتًا للمظلومين. لا تنخدعوا بالأخبار الكاذبة التي تُقوّض الإنسانية وأحلام الناس الساعين إلى الحرية والعدالة. للأسف، غالبًا ما يُصوَّر أولئك الذين يسعون إلى تحقيق هذه المُثل العليا إما على أنهم أغرار أو يُوصَفون بالإرهاب، وهو أمرٌ ظالم.
بعضكم لا يعرف حقيقة ما حدث في الربيع العربي وفي بدايته، عام ٢٠١١، عندما انتفض الشعوب. وشكرًا لك على تسليط الضوء على كيف أفشل الطغاة بلداننا وحكموا بالظلم والوحشية.
لكن ما تسمعونه الآن هو أن هناك فوضى في الدول العربية - ميليشيات، حروب أهلية، انقلابات عسكرية، إرهاب. نعم، هناك فوضى، لكن ما يجب أن تعرفوه هو أنه إذا قرأتم التاريخ، فستجدون أن بعد كل ثورة عظيمة ثورة مضادة. لا تتوقعوا أنه في أي ثورة حول العالم، وخاصة الثورات ضد الطغاة، سيخلق الناس الديمقراطية والسلام في آن واحد. هذا مستحيل. عندما تقرأون التاريخ الأوروبي، سترون أن الأمر استغرق عقودًا لتحقيق الديمقراطية والحرية. فلماذا نلوم الشعوب العربية بعد خمسة عشر عامًا فقط؟
خلال هذه الخمسة عشر عامًا، تمكنا من إسقاط سبعة طغاة. خمسة عشر عامًا فقط، سبعة طغاة حكموا بلادنا بالدم والخوف والفساد والظلم لعقود. لقد تمكنّا من إسقاطهم في اليمن ومصر والسودان والجزائر وتونس وغيرها. كانت تلك الخطوة الأولى للثورة. أما الخطوة الثانية فهي أننا نواجه الآن ثورة مضادة بشعة. يجب أن تعلموا هذا - نحن نواجه ثورة مضادة بشعة بقيادة السعودية والإمارات وإيران. هذه الدول الثلاث لا تريد الديمقراطية ولا الحرية في المنطقة العربية. إنها تخشى الديمقراطية لأنها لا تريدها في بلدانها.
أمر آخر، ذكرته للتو وتجاوزته سريعًا، هو خيانة المجتمع الدولي، وخاصة الدول الغربية. يدّعون دعمهم للديمقراطية، لكنهم لا يفعلون. لقد تحالفوا مع مستبدين من قبل، ومع ديكتاتوريين أعداء للثورة بعد ذلك. يعتقدون أن مصالحهم تتحقق معهم. يعتقدون أن شعبنا لا يستحق الديمقراطية، وأننا لا نستطيع قيادة أنفسنا، وأننا يجب أن نخضع لحكم الطغاة لضمان المصالح الغربية. أنا لا أتحدث عن دول مثل النرويج، بل عن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وبريطانيا. لقد خانوا الربيع العربي، وخانوا مبادئهم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لذا، ما نحاربه الآن ليس مجرد ثورة مضادة، بل أيضًا تواطؤ المجتمع الدولي، وخاصة الدول الغربية. لن أذكر روسيا والصين - فهما أنظمة استبدادية أصلاً وتخفي دعمها للمستبدين. أتحدث عن دول ادعت أنها تدافع عن الديمقراطية، بينما في الواقع ساندت الانقلاب العسكري في مصر، والتزمت الصمت بشأن الحرب الأهلية في السودان، ودعمت ميليشيات الإمارات، والقصة هنا تطول.
لكنكم، أيها الشباب، يجب أن تعرفوا الحقيقة: هناك أناس في بلادنا يقاتلون ويضحون من أجل الحرية والديمقراطية والسلام والازدهار وسيادة القانون. لم يستسلموا ولن يستسلموا. عليكم أن تختاروا - إما الوقوف معهم، مع صوت الحق والضمير والإنسانية، أو الصمت. وسوف يواصلون نضالهم حتى ينالوا الحرية والديمقراطية.
كيف يمكنكم دعمهم؟ يمكنكم ذلك بمحاسبة حكوماتكم - ليس فقط في النرويج، بل في كل مكان. يجب على حكوماتكم أن تتوقف عن التحالف مع المستبدين، وأن تتوقف عن بيعهم الأسلحة، وأن تتوقف عن منحهم الشرعية، وأن تتوقف عن الاستيلاء على أموالهم، وتجميد أصولهم. أهم شيء بالنسبة لكم، كشباب، هو محاسبة حكوماتكم كلما شكلت تحالفات مع الطغاة، ليس فقط في المنطقة العربية، بل في أي مكان في العالم. هذا هو دوركم.
نعم، هناك فوضى. لكن من خلق الفوضى؟ نحن، الشعب، صنعنا الثورة سلميًا. خلال الفترة الانتقالية، قدمنا الدليل على كيفية حماية حقوق الإنسان والديمقراطية. إن قادة الثورة المضادة وتواطؤ المجتمع الدولي هم من صنعوا الفوضى. لكننا لم نستسلم، ولن نستسلم. هذا هو ثمن الحرية - إنه باهظ الثمن. ونحن نسير على هذا الطريق. أعدكم أننا سننتصر.
أتذكر، في هذه المدينة نفسها، أوسلو، عندما سُئلت قبل سنوات عما إذا كان الربيع العربي قد فشل. قال الناس: "انظروا، لديكم مشاكل، لقد فشلتم". قلت لهم: "لا، لم نفشل. ما زلنا في الثورة، وسننتصر". والآن أعود إليكم بانتصارات الشعب السوري، الذي صمد في وجه أحد أسوأ الطغاة في العالم، بشار الأسد. رغم كل شيء، ورغم الخيانة الدولية، نهض الشعب وحقق انتصارات مهمة. إنهم يواصلون بناء بلدهم. نعم، هناك أخطاء. لكن الأخطاء ليست سببًا لإيقاف الثورات أو إلقاء اللوم على الشعب. في عام ٢٠١٩، نهض الشعب السوداني مجددًا، ونهض الجزائريون مجددًا. الثورة مستمرة. وستستمر في العالم العربي حتى يرحل كل ديكتاتور وتحصل شعوبنا على الحرية والديمقراطية. أعدكم - سترونها تحدث.
* غالبًا ما يُشار إلى الربيع العربي باسم "ثورة تويتر"، وقد كشفت العديد من المشاريع البحثية كيف مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي الحركات الشبابية وساعدت في نشر المعلومات خلال تلك الفترة. اليوم، تحول تويتر إلى "X" ويملكه إيلون ماسك. يُثير التطور السريع لتكنولوجيا المعلومات، وما يُطلق عليه الكثيرون "ثورة الاتصالات"، قلقًا بالغًا على الصعيد العالمي. عندما استضفنا ماريا ريسا، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، هنا في أوسلو قبل بضعة أسابيع فقط، تحدثت بقوة عن هذه القضية. وأعربت عن مخاوفها تحديدًا بشأن التأثير المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والمراقبة - وكلها مرتبطة بشكل متزايد بتآكل الخصوصية وتقويض الحقيقة. كانت رسالتها واضحة: حان وقت التحرك. ألديك نفس القدر من القلق؟
كرمان: بالطبع، أنا قلقة. لكن قلقي لا يقتصر على التكنولوجيا نفسها؛ بل يشمل أيضًا العلاقة بين الأنظمة الاستبدادية وهذه المنصات. بدلاً من حماية خصوصية الأفراد وتضخيم أصواتهم، تتيح العديد من هذه الشركات للحكومات وبشكل متزايد إمكانية تشديد المراقبة وتقييد الحريات والرقابة على التعبير.
للأسف، لم تعد شركات التكنولوجيا الكبرى تُعطي الأولوية لأصوات الناس العاديين. أصبحت سياساتها الآن أكثر تركيزًا على إرضاء الحكومات من حماية الحقوق. هذا أحد أكبر التحديات التي نواجهها اليوم. بصفتي عضوًا في مجلس الرقابة في ميتا، رأيتُ بنفسي مدى صعوبة محاسبة هذه المنصات، ومع ذلك فهي لا تزال معركة حاسمة.
نعم، أشارك ماريا ريسا مخاوفها، لكنني أعتقد أيضًا أنه يجب ألا نتخلى عن هذه الأدوات. السؤال، وخاصةً بالنسبة للشباب، هو: هل ستخافون، أم ستجدون طرقًا لاستخدامها في الخير؟ يجب أن نُعلّم أنفسنا كيفية التهرب من المراقبة، وحماية خصوصيتنا، والبقاء متشككين بشأن المعلومات المضللة والتضليل الاعلامي. في الوقت نفسه، يجب أن نستخدم هذه المنصات لتمكين أصواتنا، ودعم الآخرين، والدعوة إلى الحرية. وسائل التواصل الاجتماعي هي أداتنا - يمكن أن تكون قوية كالأسلحة النووية إذا استُخدمت بحكمة. لا يمكننا الهروب من التكنولوجيا، ولا يمكننا الاكتفاء بانتقادها. علينا تنظيم استخدامنا لها، وتحويلها إلى منصة للتغيير، وجعلها "ساحة حريتنا" الجديدة. خلال الربيع العربي، كانت وسائل التواصل الاجتماعي شريان حياتنا: استخدمناها للتعبئة، وتنظيم الاجتماعات، ودعوة الناس إلى الشوارع. أما اليوم، فقد تعلمت الأنظمة الاستبدادية التلاعب بهذه الأدوات نفسها من خلال نشر حسابات مزيفة، ونشر معلومات مضللة، وحملات إلكترونية منسقة لإسكات المعارضة.
لكن العبرة تبقى: كما لم نستسلم في الشوارع، لا يمكننا الاستسلام على الإنترنت. يجب على الشباب، على وجه الخصوص، إتقان هذه الأدوات، واستخدامها بمسؤولية، وتحويلها إلى أسلحة للعدالة والحرية والكرامة في كل مكان.
أود أن أضيف هنا أمرًا بالغ الأهمية. بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت القضية الفلسطينية واضحة للناس حول العالم، وبفضل ضغط أشخاص مثلكم. الأمر لا يقتصر على جهود الناس على الأرض الذين يكافحون الاستبداد والديكتاتورية والاحتلال، بل يشمل أيضًا جهود من يستمع إليهم.
من خلال منشورات تيك توك وإنستغرام، حوّل شباب مثلكم، ممن يصغون بصدق لصوت الإنسانية ويدعمونه، هذه القضية إلى قضية عالمية. بفضل أصواتكم على وسائل التواصل الاجتماعي، أجبرتم بعض الحكومات على الاعتراف بما يحدث والاعتراف بأنكم تقولون الحقيقة.
لدينا الآن أصوات حول العالم، كثير منها ليسوا بمسلمين، وربما لا يعلمون تمامًا ما يحدث عالميًا، لكنهم رأوا ما يحدث في فلسطين وقالوا: هذه إبادة جماعية. أشخاص مثلكم يطالبون بحق الفلسطينيين في تقرير المصير. ولهذا السبب، تناقش العديد من الحكومات الآن علنًا الاعتراف بدولة فلسطينية. هذا هو ثمرة جهودكم.
لذا، عندما نتحدث عن وسائل التواصل الاجتماعي، لا تقتصروا على النقد. السؤال الأهم هو: كيف أستخدمها؟ كيف أجعلها منصتي لمساعدة الناس ودعمهم وتسليط الضوء على قضاياي؟ لهذا السبب أشجعكم أيها الشباب على أن تكونوا قادة في كل مجال - التعليم، الصحة، أي مجال. استخدموا هذه المنصات لإيصال صوتكم، ولتمكين أنفسكم، ولتمكين من حولكم وحول العالم.
وأمر آخر: تعلّموا عن الذكاء الاصطناعي. هذا مستقبلنا، وعليكم فهمه. كما أقول دائمًا، أنتم القادة. إن لم تُعدّوا أنفسكم لتكونوا قادة بلدكم، أو حزبكم، أو حتى العالم، فسينهار العالم. إن أعددتم أنفسكم، يُمكنكم إنقاذ البشرية.
تذكروا هذا: لا ترضخوا للضغوط يا شباب. لا ترضخوا. لا تدعوا أحدًا يتصرّف نيابةً عنكم. عليكم أن تكونوا القادة وتقفوا في الصفوف الأمامية.
* توكل، كأنك تكررين كلمات والدك. لقد علمك منذ صغركِ أهمية المبادرة - لا انتظار التغيير، بل صنعه بأنفسك. مع أنه، كما ذكرت، لم يدرك تمامًا أنك ستكونين ثورية. ربما لم يرك أيضًا حائزة على جائزة نوبل للسلام. إحدى المبادرات التي اتخذتها كحائزة، ربما كنتيجة لجائزة نوبل للسلام، كانت تمويل مؤسستكِ الخاصة. هل يمكنكِ إخبارنا بما تريدين تحقيقه من ذلك؟
كرمان: سألني جمال خلف الكواليس عن مكان إقامتي، وأخبرته بأنني "أعيش في كل مكان"، وأنني أتنقل بين ثلاث دول في الغالب - بوسطن، إسطنبول، والدوحة. أجاب: "إذن، ليس في اليمن؟" فقلت: "لا، لا تقل ذلك ثانية لأنني أعيش اليمن - هذا ما يحدث حرفيًا. نعم، أنا هنا، أُخاطبكم الآن. وهذه قوتي، وهذا سلاحي.
بالنسبة لي، أصبحت جائزة نوبل للسلام سلاحي الجديد - سلاحي الأقوى - لأُخبر العالم بالحقيقة، ولمشاركة أحلام شعبي، ولأدعو الناس في كل مكان للوقوف معنا في نضالنا من أجل الحرية. إنها الوسيلة لإيصال صوتي، وأنا أستخدمه في كل مكان.
عندما احتلت الميليشيات صنعاء عام ٢٠١٤، كان من أوائل ما فعلوه الاستيلاء على منزلي ومكتبي، وما زالوا يحتلونهما حتى اليوم. وضعوا اسمي على القائمة السوداء لمنعي من مغادرة اليمن، معتقدين أنهم يستطيعون إسكاتي. لكن في تلك اللحظة تحديدًا، كنتُ في الخارج - في اليابان أو كوريا الجنوبية - وقلتُ لهم: "لن تُسكتوا صوتي أبدًا".
رغم كل العقبات، ما زلتُ أعمل. أعارض الميليشيات المدعومة من إيران. أعارض السعودية والإمارات، وكل ديكتاتور، من السيسي في مصر إلى غيره أرجاء المنطقة. ومع ذلك، ورغم قوتهم، ما زلت هنا، أعمل. من خلال مؤسستي، التي أنشأتها بعد حصولي على جائزة نوبل، بنينا أكثر من 40 مدرسة في اليمن، وأعدنا تأهيل أكثر من 20 مستشفى. وعلّمنا أكثر من 10,000 طالب وطالبة، داخل البلاد وخارجها. ورغم إغلاق منظمتي "صحفيات بلا قيود" ومصادرة مكاتبها، إلا أنها تواصل عملها. ما بدأ كقضية يمنية أصبح الآن نضالًا أوسع نطاقًا من أجل الحقوق على امتداد شبه الجزيرة العربية.
كما أغلقوا قناتي التلفزيونية داخل اليمن، لكنني أعدت بنائها في الخارج، واليوم لا يزال اليمنيون يعملون بها من الميدان. وما زلت أقود مجلس الثورة السلمية. ظنّت الميليشيات أن عنفهم سيُسكت صوت السلام، لكنهم كانوا مخطئين. الثورة السلمية لا تزال حية، تقاوم الجماعات المدعومة من إيران وتدخل السعودية والإمارات.
لم نستسلم. قد يغلقون مساحاتنا، لكنهم دائمًا ما يجدوننا من جديد. وهذه هي رسالتي: لا تتخلى عن حلمك، لا تتخلى عن نضالك. كثيرًا ما يسألني الناس عن سبب تفاؤلي. وإجابتي بسيطة: لأنني ما زلت هنا. إذا استسلمت، سأموت. السبيل الوحيد للمضي قدمًا هو الاستمرار في الحلم والعمل من أجله. نعم، هناك تضحيات جسيمة، ونعم، هناك عقبات لا تُحصى. لكن كل تحد يمنحني المزيد من الشجاعة والقوة، ولهذا السبب أنا متفائل.