كلمات
كلمة توكل كرمان في مؤتمر "العهد الديمقراطي العربي: خارطة طريق للديمقراطية العربية" - سراييفو
مرحباً وأهلاً وسهلاً بكم في هذا المؤتمر الهام الذي يناقش قضايا الديمقراطية في الوطن العربي. شكراً لحضوركم جميعاً رغم التحديات والمخاوف التي تواجهنا: من عودة الاستبداد، وتزايد قمعه وعنفه، إلى تعزيز تحالفاته الداخلية والخارجية، إضافة إلى الاحتلال والطموحات الخارجية، والحروب الداخلية والإقليمية.
الأعزاء والعزيزات،
دعوني أذكركم اليوم بأهمية وجودنا هنا كديمقراطيين ومدافعين عن الديمقراطية ومبادئها. إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها، ليست عملية تبدأ وتنتهي في المواعيد الانتخابية، بل هي منظومة متكاملة من القيم والمبادئ والممارسات التق تضمن حقوق الافراد وكرامتهم ورفاههم.
إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها هي تلك التي يكون فيها لكل إنسان صوت، ولكل فكرة مكان، ولكل اختلاف فرصة للحوار والتوافق، تكفل الحريات والحقوق الاساسية وفي مقدمتها: حرية الرأي والتعبير بالصوت والصورة والكتابة والحركة، وحرية الفكر، وحرية الضمير. وتتيح للشعوب مناقشة الأفكار بحرية، دون خوف من الاضطهاد والقمع، وتكفل حرية التجمع والتنظيم، ما يجعل الشعوب قادرة على التعبير عن مصالحها، والدفاع عنها بطرق سلمية ومنظمة.
إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها، هي تلك التي تقدم الضمان الحقيقي لفصل السلطات، واستقلال القضاء، وسيادة القانون، ما يمنح الشعوب قوة المساءلة، فسيادة القانون هي الحصن الذي يحمي المساواة، حيث لا يكون أحد فوق القانون، مهما كانت سلطته.
إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها، هي تلك التي تتيح للشعب حق اختيار من يحكمه ويمثله عبر انتخابات حرة نزيهة وشفافة،تجعل التنافس على الحكم والتداول السلمي للسلطة متاحًا للجميع وليست حكرا على عائلة، أو جماعة، أو حزب، أو طائفة. وهي التي تمنحنا القدرة على محاسبة الحاكم، وعزله. تتيح لنا فضيلة النقد والمعارضة، وفي الوقت نفسه تمنحنا حق التأييد.
إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها، هي تلك التي تكافح الفساد بشكل فعال. إن ضمان الشفافية وحق الوصول إلى المعلومة، مع وجود آليات تتيح محاسبة الفاسدين واحدة من المزايا الكثيرة التي تتمتع بها النظم الديمقراطية.
إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها، هي تلك التي تحقق العدالة الاجتماعية والتنمية من خلال ضمان التعليم الجيد، وتوفير الرعاية الصحية، وضمان استثمار الموارد في بنية تحتية تلبي احتياجات المجتمع، مما يحسن الحياة اليومية ويدعم النمو الاقتصادي.
إن الديمقراطية التي نناضل من أجلها وندعو إليها، هي تلك التي تقلل من خطر الحروب الأهلية والحروب بين الدول من خلال توفير مسار قانوني وسياسي واضح للتنافس على السلطة. فهي تضمن وجود آليات محددة لحسم النزاعات سلميًا، وتلزم الحكام بالرجوع إلى المؤسسات التشريعية قبل اتخاذ قرارات الحرب. في المقابل، يلجأ الحكام المستبدون للعنف والتدمير للحفاظ على امتيازاتهم على غرار ما يحصل في بلدان الربيع العربي.
هذه هي المبادئ التي ندافع عنها، ولا يهمنا بأي اسم تُسمى: ديمقراطية، شورى، أو حتى إن اخترعنا لها اسمًا جديدًا مثل "الإرادوية". المهم أن تكون هذه المبادئ الأساسية مضمونة ومطبقة.
الأعزاء والعزيزات،
لن أجانب الحقيقة إذا قلت إن كثير من معاني ومبادئ الديمقراطية ليست منتجا غربيا خالصا، فقد أسهمت ثقافات مختلفة في مد مسألة الديمقراطية بالعديد من الأفكار الجوهرية. في تراثنا العربي والإسلامي يوجد إرث طويل مع مبادئ الديمقراطية قبل أن يتبناها الغرب بالصورة التي هي عليها اليوم. يحفظ لنا التاريخ، أمثلة وشواهد متعددة على أن التشاور والمشاركة والمساءلة، تمتد بعمق في ثقافتنا.
لقد أظهرت المجالس القبلية قديما أشكالاً مبكرة من الحكم التشاركي. ومع ظهور الخلافة الإسلامية، لعب مجلس الشورى والعلماء أدواراً بارزة في تقديم المشورة للحاكم والتفاعل مع القضايا الكبرى. من أبرز الأمثلة في تراثنا قصة الملكة بلقيس، ملكة سبأ، التي أظهرت حكمة وشجاعة عندما تشاورت مع قومها في كيفية التعامل مع رسالة النبي سليمان، قائلة: *"ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون"*، مما يعكس روح التشاور والمشاركة. ويُنظر لصحيفة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارها أنموذجا مبكرا للعقد الاجتماعي، حيث قدمت ضمانات لجميع الأفراد بغض النظر عن مراكزهم الاجتماعية ومعتقداتهم الدينية.
الأعزاء والعزيزات،
هناك من يشكك في الديمقراطية، ويدعي أنها بطيئة أو غير فعالة في حل الأزمات، لكنني أسألكم: ما هو البديل؟ هل الاستبداد هو الحل؟ هل نتخلى عن حقنا في المشاركة ونسلم أمورنا لحفنة من الطغاة الفاسدين؟
تجارب التاريخ وخبرات الدول تظهر بوضوح أن الحقوق والحريات نمت وازدهرت في ظل الديمقراطية. قد يقول البعض إن الأنظمة الاستبدادية حققت استقرارًا ونموًا اقتصاديًا، مشيرين إلى نجاحات اقتصادية وإنجازات بنى تحتية. لكن بأي ثمن؟ الاستقرار الذي يوفره الاستبداد دائمًا يكون على حساب الحريات وكرامة الإنسان، وهو استقرار هش قائم على القمع والخوف وليس على التوافق المجتمعي.
الأعزاء والعزيزات،
إن مهمتنا الاساسية هي تخطي التحديات والصعوبات التي تعيق الوصول للديمقراطية المنشودة.
كفاحنا كديمقراطيين عرب ومناضلين من أجل الحرية، يجب أن يركز على مواجهة التحديات التي تعيق تحقيق الديمقراطية. لا ينبغي أن نضيع وقتنا في الدفاع عن الديمقراطية كقيمة أو نظام حكم، فهذا أمر محسوم. لكن يجب أن نركز جهودنا على مواجهة العوائق التي تمنع تحقيقها بشكل كامل. من أبرز هذه التحديات:
- تحالف قوى الاستبداد عالميًا وإقليميًا: سواء كانت تحت مظلة الانقلابات العسكرية، الاحتلال، الميليشيات المسلحة، أو الحكام الذين استغلوا الانتخابات للانقضاض على مؤسسات الدولة.
- خيانة الدول الديمقراطية لقيم الديمقراطية لمبادئها بتحالفها مع الأنظمة المستبدة، ورعايتها للانقلابات العسكرية والفوضى الخلاقة.
- ازدياد مهددات الديمقراطية في دول الغرب: نتيجة صعود الشعبوية واليمين المتطرف، وتآكل الثقة بالمؤسسات والقوانين. وقد رافق هذه الموجة، تراجع هامش حرية التعبير داخل تلك البلدان إلى مستويات غير مسبوقة، خاصة مع اعتقال الطلاب ومناصري القضية الفلسطينية، ليس فقط بتهمة معاداة السامية، بل بتهمة جديدة وهي "معاداة الصهيونية". هذا يمثل تقويضًا لأحد أهم أركان الديمقراطية، وهو حرية التعبير والتجمع السلمي.
- ارتكاب هذه الدول لجرائم حرب وانخراطها في غزو وتدمير الدول واستمرار وصايتها وارثها الاستعماري البغيض في عديد من دول العالم: وعلى سبيل المثال احتلالهم للعراق وافغانستان، واستمرار دعمها للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ومشاركتها له في جرائم الإبادة في غزة وجرائم الحرب في لبنان. هذا التواطؤ يكشف عن ازدواجية المعايير التي تعتمدها تلك الدولة، حيث تُغمض عينيها عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي حين يتعلق الأمر بحلفائها، مما يزيد من تقويض مصداقيتها في الدفاع عن الديمقراطية والعدالة. لقد بات واضحا، إن معركتنا ضد الاستبداد هي ذات المعركة ضد الاحتلال، لذلك سنظل نقاوم المحتل الاجنبي والوصاية الاجنبية، وسنظل ندعم شعبنا الفلسطيني في حريته واستقلاله والعودة لأراضيه.
- انتشار الميليشيات المسلحة والصراع الطائفي في منطقتنا: من المهم أن نفهم أن صراعنا مع الميليشيات الطائفية ليس صراعًا بين السنة والشيعة، بل هو صراع بين الاستبداد والديمقراطية. الاستبداد يستخدم الطائفية كغطاء لجرائمه وليحرف مسار المعركة عن هدفها الحقيقي. كمجتمع ديمقراطي عربي، يجب ألا ننخدع بالشعارات التي ترفعها الميليشيات الطائفية، خاصة تلك التي تدّعي الدفاع عن الشعب الفلسطيني. من بين هذه الميليشيات، تأتي ميليشيا الحوثي السلالية العنصرية، التي دمرت اليمن وارتكبت بحق شعبه جميع أشكال العنصرية والعنف والإرهاب، ولا تزال تواصل جرائمها. هؤلاء يستغلون القضية الفلسطينية لخدمة اجندات دولة استبدادية كإيران، التي تسعى للتوسع في المنطقة تحت غطاء الطائفة والمذهب.
يجب علينا كديمقراطيين، وبنفس الحزم الذي نرفض فيه الوصاية والاحتلال، أن نرفض الميليشيات الطائفية في سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن. هذه الميليشيات دمرت هذه البلاد، ولا يجب أن نسمح لها باستغلال قضايا أمتنا الكبرى لخدمة مصالحها الخاصة.
- ضعف المؤسسات العالمية التي أنشئت لحماية الشعوب،
ومن التحديات التي تواجهنا كديمقراطيين ضعف المؤسسات العالمية التي أنشئت لحماية الشعوب، مثل الأمم المتحدة، مجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية. هذه المؤسسات لا يجب أن نغفل عنها ونحن نناضل من أجل الديمقراطية في أوطاننا العربية. من الضروري أن نعمل على نشر الوعي والضغط من أجل إصلاح هذه المؤسسات لتكون ممثلة حقيقية للشعوب، وليس للحكام، وأن تضمن آلياتها تحقيق المساواة والعدالة.
الأعزاء والعزيزات،
لقد قيل الكثير عن الديمقراطية وسوف يقال أكثر. تدعو الديمقراطية للتفكير وحرية الاختيار واحترام الاختلاف، وغالبا ما تقود هذه الطريقة للتقدم، بعكس الديكتاتورية التي تحطم طموحات الناس ومستقبلهم، وقبل ذلك تحطم كرامتهم. أعتقد أن شعوبنا باتت تعرف الطريق الذي ينبغي أن تسلكه، وعندما تحصل على الفرصة فلن تضيعها مجددا.
شكرا لكم..