أكدت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان، أن المساواة الجندرية لا تعني التشابه التام بين الرجال والنساء، بل تعني تكافؤ الفرص والحقوق والكرامة لجميع الأفراد دون تمييز أو تهميش أو عنف، مشددة على أن المساواة ليست شعارًا سياسيًا، بل هي أساس الكرامة الإنسانية والديمقراطية والاستقرار، وإن الدفاع عنها واجب عالمي لضمان مستقبل أكثر عدلاً وسلامًا لجميع الشعوب.
جاء ذلك خلال مشاركتها في قمة "EqualVoice" التي استضافها متحف بولين في العاصمة البولندية وارسو، حيث قدمت خطابًا رئيسيًا تلاه حوار تفاعلي مع الجمهور استمر 45 دقيقة تحت عنوان: ما معنى المساواة الحقيقية بين الجنسين؟ وكيف نحوّلها إلى قوة تغيّر العالم؟.
وشددت كرمان على أن استبعاد نصف المجتمع من الحياة العامة بسبب معتقدات موروثة أو مصالح سياسية واقتصادية يمثل عقبة كبرى أمام تقدّم الدول وتطورها.
معاناة النساء عالميًا
وتطرقت كرمان بصراحة إلى التحديات التي تواجه النساء حول العالم، موضحة أن النساء في الغرب ما زلن يعانين من العنف الأسري وفجوة الأجور والتحرش وحاجز السقف الزجاجي، في حين تواجه المهاجرات والمسلمات وذوات البشرة الملوّنة أشكالًا مضاعفة من التمييز. أما في الشرق الأوسط، فأكدت أن التحديات أكثر تعقيدًا بفعل الأنظمة السلطوية والاحتلال، حيث لم تكن المساواة يومًا ضمن أولويات السلطات.
إعادة تعريف مفهوم القوة
وأشارت كرمان إلى أن التحولات العالمية أعادت تعريف مفهوم القوة، بحيث لم تعد تُقاس بالثروات الطبيعية أو السلاح، بل بقدرة الدول على الاستثمار في الإنسان وإتاحة الفرص للجميع. وأكدت أن التنمية المستدامة مستحيلة في ظل استبعاد أي جزء من المجتمع، وأن التجارب الدولية أثبتت أن تمكين المرأة يعزز النمو الاقتصادي ويحسّن مستوى المعيشة، مما يجعل المساواة مكسبًا وطنيًا وعالميًا، وليس مجرد قضية نسوية.
تحويل المساواة إلى قوة تغيير
وقدمت كرمان رؤية واضحة لكيفية تحويل المساواة إلى قوة تغيير، مؤكدة أهمية انتقالها من النصوص إلى الممارسات الفعلية، عبر تعزيز مشاركة النساء في السياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا، وتوفير وصول عادل إلى التعليم والموارد وصنع القرار. وقالت إن غياب النساء عن طاولات السلام يجعل الاتفاقات هشة وقابلة للانهيار، معتبرة أن طاولة سلام بلا نساء ليست سوى إعداد لجولة جديدة من الصراع.
الصورة النمطية للنساء
وانتقدت كرمان الصورة النمطية للنساء في الإعلام، خصوصًا نساء الجنوب العالمي، مؤكدة أنهن يظهرن غالبًا كضحايا فقط، بينما هن في الحقيقة رائدات في ميادين مقاومة الديكتاتورية، وبناء الاقتصادات، وحماية الديمقراطية، وصناعة مستقبل أكثر إنصافًا.
ووجهت كرمان رسالة قوية للنساء حول العالم، قائلة إن المساواة تحتاج إلى نساء يؤمنّ بقدراتهن ويرفضن البقاء في الظل. وأضافت أن الظهور العلني هو الخطوة الأولى نحو الحرية، بينما يشكّل الصمت الخطوة الأولى نحو القمع. وأكدت أن النساء لا ينبغي أن يقبلن بمقاعد رمزية، بل يجب أن يحصلن على نصف مواقع صنع القرار باعتبارهن نصف المجتمع.
دعوة لمواجهة الاستبداد والظلم
وفي جانب آخر من خطابها، شددت كرمان على ضرورة محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والعنف ضد النساء والأطفال في مختلف مناطق النزاع، مؤكدة أن الإفلات من العقاب لا يمكن السماح باستمراره، داعية إلى مواجهة الاستبداد والظلم في أي مكان كان.
وفي ختام كلمتها، حذّرت كرمان من أن صعود الشعبوية وخطابات الكراهية وعدم المساواة يهدد القيم التي قامت عليها التجربة الأوروبية الحديثة.
وأكدت كرمان أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر بينما تُقصى أصوات أو تُهمّش مجموعات، وأن المستقبل الأوروبي مرتبط بقدرته على الدفاع عن قيم الحرية والمساواة والسلام.
وفيما يلي نص الكلمة:
أولاً، أود أن أشكركم على هذه الدعوة.
المساواة بين الجنسين لا تعني تحويل الرجال والنساء إلى نسخ متطابقة من بعضهم البعض، إنها تعني منح الجميع الفرص نفسها، والحقوق نفسها، والكرامة نفسها، والحماية نفسها، والمساحة نفسها لتحقيق إمكاناتهم الكاملة من دون تمييز أو تهميش أو عنف.
وهي تعني أن نصف المجتمع يجب أن لا يُقصى عن الحياة العامة بسبب معتقدات موروثة أو مصالح سياسية واقتصادية.
وعندما نتحدث عن المساواة بين الجنسين، يجب أن نتحدث بصراحة دون مواربة لأن النساء في كل أنحاء العالم ما زلن يخضن معركة طويلة ومرهقة ضد أشكال متعددة من الظلم والتمييز والإقصاء.
قد تتغير الوجوه وتختلف الأدوات، لكن جوهر الصراع واحد، صراع انسان يسعى لحقه الكامل في الحياة والكرامة وتكافؤ الفرص.
في الغرب، ورغم القوانين والمؤسسات القوية، لا تزال النساء يواجهن مستويات مقلقة من العنف المنزلي، وفجوة مستمرة في الأجور، ومعيقات قاسية تمنعهن من الوصول إلى مواقع القوة والسلطة والنفوذ ، وانتشارًا واسعًا للتحرش في أماكن العمل .
وتعاني النساء المهاجرات والمسلمات ونساء الأقليات من تمييز مضاعف بسبب الجنس والعرق والهوية.
أما في الشرق الأوسط، فالتحديات أكثر تعقيدًا وتجذرًا. فالنساء يواجهن أنظمة راسخة من العنف والتمييز، ناتجة عن أنظمة استبداد واحتلال.
المساواة لم تكن يومًا أولوية لدى السلطات الحاكمة، والتاريخ يشهد بأن النساء كنّ الأقل حقوقًا والأكثر تعرضًا للانتهاكات.
منذ سبعة وسبعين عامًا، شكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أول محاولة عالمية لتغيير هذه الحقيقة، مؤكدًا أن “جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق”، وأن هذه الحقوق يجب أن تُمنح “بدون أي تمييز، بما في ذلك التمييز بسبب الجنس.”
لم يحقق الإعلان العالمي التغيير الكامل الذي كان يأمله العالم، لكنه مهّد الطريق لتقدم جوهري في مجتمعات عديدة ساعدها على التطور بسرعة اكبر من غيرها.
أصدقائي الأعزاء،
بينما يشهد العالم تغيرات متسارعة، تغيّر معنى القوة، لم تعد القوة تُقاس بالموارد الطبيعية ولا بالأسلحة الفتاكة. القوة الحقيقية اليوم تكمن في رأس المال البشري عندما يستطيع كل فرد أن يساهم في بناء مجتمعه وأمته دون تهميش.
وهكذا تصبح المساواة بين الجنسين ركيزة أساسية لمجتمعات قوية ومزدهرة ولنظام عالمي أكثر توازنًا وعدلا وإنصافا .
الدول التي تبنّت سياسات واضحة للمساواة—even minimally—تمكنت من دمج النساء في البرلمانات والحكومات والمجتمع المدني.
وقد أصبحت مجتمعاتها أكثر توازنًا، وأكثر قدرة على الصمود، وأكثر سلامًا وإنسانية في آن .
المساواة شرط أساسي للتنمية المستدامة، لأن أي مجتمع لا يمكن أن ينهض وهو يستبعد جزءًا أساسيا من سكانه.
عندما تتوفر للجميع حقوق وفرص متساوية، تنمو الاقتصادات، وتستقر المجتمعات، ويصبح التطور عادلًا وشاملًا ودائمًا.
وباختصار: لا وجود للتنمية المستدامة دون مساواة.
وتؤكد التقارير الدولية أن تمكين النساء ساهم في زيادة الناتج المحلي وتحسين مستويات المعيشة في دول عديدة. وهذا يثبت حقيقة بسيطة مفادها إن المساواة ليست قضية نسائية فقط، إنها قضية إنسانية الانتصار لها يمثل مكسب وطني وعالمي.
كيف نحول المساواة إلى قوة تغيّر العالم؟
تتحول المساواة إلى قوة تغيير عندما تكافح الفقر بطريقة فاعلة وحقيقية ، وتنهي العنف، وتتحدى الاستبداد، وتطلق القوة الإبداعية والاقتصادية لنصف المجتمع لكي يساهم في خدمة بلده .
نحوّل المساواة إلى قوة عالمية حين ننتقل بها من النظرية إلى التطبيق من نصوص مكتوبة إلى واقع حي في حياة الناس حول العالم ،
عندما تنتقل النساء من مجرد “ضحايا" إلى “قائدات " في السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام والقانون، فيُعاد تشكيل طبيعة القرار العام ليصبح أكثر عدالة وسلامًا وتعليمًا وإنسانية.
وعندما نمكّن النساء اقتصاديًا، فإننا نحمي العالم من أكبر خسارة اقتصادية يتعرض لها.
فالاقتصاد العالمي يخسر تريليونات بسبب استبعاد النساء.
واذا فإن تمكينهن يعني اقتصادات أقوى، وابتكارًا أكبر، ومجتمعات أكثر استقرارًا وقدرة على الصمود.
وتصبح المساواة قوة حقيقية عندما يحصل النساء والرجال على فرص متساوية في التعليم والموارد واتخاذ القرار؛ وعندما تُقيّم أماكن العمل المواهب لا الجنس، وعندما تتحمّل الأنظمة السياسية قيادات نسائية صاحبات قرار وشريكات في اتخاذه، ذلكم أن ديمقراطية بلا نساء هي ديمقراطية زائفة مبنية على كذبة كبرى.
تصبح المساواة قوة تغيير عندما نزيل الحواجز الثقافية التي تحد من إمكانات النساء.
ونحوّل المساواة إلى قوة فعلية عندما تحظى النساء بدور حقيقي في مفاوضات السلام.
لا سلام بلا عدالة.
ولا عدالة بينما نصف المجتمع صامت.
ومائدة سلام بلا نساء ليست مائدة سلام، بل مائدة تحضير للحرب التالية.
وتصبح المساواة قوة تغيير عندما تظهر نساء الجنوب العالمي في الإعلام ليس فقط وهنّ يبكين ، ولا كمجرد ضحايا تُلقى مسؤوليتهم على الثقافة أو الدين بل كالأبطال الحقيقيين.
حين نشهد النساء اللواتي:
يواجهن الديكتاتوريات،
ويقدن الثورات،
ويحاربن الفساد،
ويبنين الاقتصادات،
ويحمين الديمقراطية،
ويخترعن تقنيات المستقبل.
ببساطة: عندما تنهض النساء، تنهض الأمم كلها.
عندما تُرى المرأة وتُسمع ويُوثق بها تصبح المجتمعات أقوى وأكثر عدلًا وحرية.
لقد رأيت هذه الحقيقة في شوارع اليمن، وفي ساحات الثورة السلمية،
وعلى خطوط المواجهة الإعلامية،
وفي الغرف المظلمة التي حاولت فيها الديكتاتورية إسكات النساء وأصواتهن الحرة.
ومن كل ذلك، تعلمت حقيقة لا جدال فيها: الظهور هو الفصل الأول من الحرية؛ والصمت هو الفصل الأول من القمع.
المساواة بين الجنسين ليست شيئًا ننتظره من السلطات، إنها شيء يجب أن نأخذه نحن.
ولذلك، أقول للنساء في كل مكان:
لا يمكنكن تحقيق حقوقكن الكاملة إذا كان مجتمعكن محرومًا من الحرية والكرامة والديمقراطية وسيادة القانون.
وفي كل حرب وصراع، تتحمل النساء والأطفال أبشع الانتهاكات في ظل إفلات كامل من العقاب لكثير من المجرمين. وهذا أمر يجب أن يتوقف .
فلنتحد لمواجهة كل هؤلاء المجرمين حول العالم. من يرتكب التجويع، أو الاغتصاب، أو أي جريمة حرب يجب أن يُحاسب بدون أي استثناء. فلنقف سويًا ضد الاستبداد ولنقاوم الظلم أينما كان. ولنرفض أن نُعامل كديكور. نحن لا نقبل مقعدًا واحدًا أو مقعدين نريد نصف المقاعد، لأن نصف المجتمع يستحق النصف دون نقصان،
كونّ شجاعات. قولن الحقيقة. ولا تعتذرن أبدًا عن المطالبة بحقوقكن الكاملة.
وأخيرًا، أصدقائي الأعزاء،
لنختم بالحديث عن المساواة بمعناها الأوسع. المساواة ليست مجرد شعار، إنها أساس الكرامة الإنسانية والديمقراطية والسلام.
واليوم، يجب على أوروبا أن تعيد التزامها بالمساواة في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجندرية والبيئية.
إن تنامي الشعبوية، والتمييز، وخطاب الكراهية، وعدم المساواة أصبح يهدد جوهر المشروع الأوروبي نفسه. لا يمكن للديمقراطية أن تستمر عندما تكون الأصوات غير متساوية، ولا يمكن للاقتصاد أن يبقى مستقرًا عندما يُحتكر الثروة بشكل غير عادل، ولا يمكن للمجتمع أن يزدهر بينما الأقليات والمهاجرون والنساء يواجهون الإقصاء والتهميش والعنف.
وتفاقم العدالة المناخية هذه الفجوات. لقد بُنيت أوروبا على قيم السلام والحرية والمساواة، والدفاع عن هذه القيم اليوم هو أكبر مسؤولياتها. لا كرامة بدون مساواة.
ولا ديمقراطية بدون مساواة.
ولا مستقبل لأوروبا بدون مساواة.
شكرًا لكم.





