كلمات
مرحبا بكم، والسلام عليكم جميعاً. إنه لمن دواعي سروري أن أكون هنا، وشرف عظيم لي أن أنضم إليكم في مؤتمر قادة البيئة والمجتمع والحوكمة العالمي لعام 2024 في شنغهاي، المدينة التي ترمز إلى الابتكار حديثاً والى الحكمة قديماً. تذكرنا شنغهاي بعالمنا المترابط ومسؤوليتنا المشتركة تجاه مستقبله.
يأتي اجتماعنا اليوم في وقت يحمل فرصاً كبيرة، ولكنه ايضاً يواجه تحديات هائلة. ولابد أن تشكل مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية ــ حماية البيئة، والمسؤولية الاجتماعية، والحوكمة الأخلاقية ــ الآن محوراً أساسياً لاستراتيجيات الأعمال والاستثمارات والسياسات العالمية. ورغم أن التقدم المحرز في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية مشجع، إلا أن التحديات التي نواجهها كبيرة، ولا تزال جهودنا الحالية غير كافية لمواجهة حجم هذه الأزمة. والشركات التي تتبنى الاستدامة لا تفعل الشيء الصحيح فحسب؛ بل إنها على المدى البعيد أكثر مرونة وربحية.
لكن يتعين علينا الإسراع من وتيرة جهودنا لمواجهة التهديدات الوجودية التي تواجه البشرية، ولنبدأ بالقضية الأكثر إلحاحا والمتمثلة بالبيئة. إننا نعيش في عصر تغير المناخ وحالة الطوارئ المناخية، إذ باتت موجات الحر المدمرة، والفيضانات، وحرائق الغابات، وغيرها من الظواهر المناخية العنيفة، هي الوضع السائد الجديد.
بالرغم من الأهداف الطموحة التي حددتها أطر مثل اتفاق باريس، فإن انبعاثات الكربون عالمياً آخذة بالتزايد لا الانخفاض. والواقع أن البلدان التي كانت في الطليعة من قيادة المناخ عادت من جديد لاستخدام الوقود الأحفوري في أعقاب أزمة الطاقة العالمية، فأوروبا، على سبيل المثال، عادت إلى الفحم؛ وهي انتكاسة وليس تقدماً لأن التحول إلى الوقود الأحفوري من أجل البقاء على المدى القصير يقوض مبادئ الاستدامة البيئية التي نحن بصدد الدفاع عنها هنا في هذا المؤتمر.
أضحت أهداف المناخ بعيدة المنال، والتنوع البيولوجي على كوكبنا يواجه خطر الانهيار جراء تجريف الغابات وتدمير النظم البيئية لتحقيق مكاسب اقتصادية. لا ينبغي للعالم أن يتراجع؛ فالتحرك لأجل المناخ لا يستحمل الانتظار، ولا يمكننا تحمل تأخير العمل بشأن الاحتباس الحراري العالمي. إن كوكبنا يصرخ طلبا للمساعدة، ومسؤوليتنا تحتم علينا الاستجابة بإجراءات جريئة وحاسمة، فالأرض لا وقت لديها لأنصاف الحلول. ويجب أن تكون استجابتنا لأزمة المناخ بمستوى التهديد، فكل تأخير ليس إلا خيانة للأجيال القادمة.
نحن بحاجة إلى الإسراع في عملية التحول إلى الطاقة المتجددة وذلك ببذل الجهود والالتزام الدؤوبين. وهنا أود أن أسألكم: ماذا عن وعود الشركات بشأن المسؤولية الاجتماعية؟ إن العديد من الشركات تنخرط في ممارسات التضليل البيئي، وتطلق ادعاءات جريئة بشأن رعاية البيئة بينما هي ماضية في تلويث البيئة واستغلالها. إن التضليل البيئي يقوض مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، ويؤدي إلى تآكل الثقة العامة، ويعيق التقدم البيئي الحقيقي.
والآن، دعونا نتحدث عن المسؤولية الاجتماعية. يتعين علينا أن ندرك أن غياب المساواة والفقر يتزايدان على مستوى العالم، حيث يتمكن الأثرياء من حماية أنفسهم بينما يتخلف الفقراء عن الركب. ولا يزال الحصول على المياه النظيفة والرعاية الصحية والتعليم والسكن الآمن حلما بعيد المنال بالنسبة لملايين البشر في مختلف أنحاء العالم.
لا تزال المجتمعات الأصلية في أرجاء أميركا اللاتينية تواجه تهديدات لأراضيها وسبل عيشها وتراثها الثقافي بسبب الأنشطة الصناعية غير الخاضعة للرقابة، والتدمير البيئي، والافتقار إلى الحماية القانونية. وتستمر هذه المظالم حتى مع تعهد الشركات بالالتزام بممارسات العمل العادلة. ولا ينبغي أن يُتخذ من التنوع والمساواة والاندماج مجرد شعارات للشركات. ويتعين علينا أن نعمل من أجل عالم أساس تنميته المستدامة التنوع في مكان العمل، والأجور العادلة، وحقوق الإنسان.
والمجتمع الذي يتخلف عن الركب لا يجوز وصفه بالمجتمع العادل. إن البعد الاجتماعي للمسؤولية الاجتماعية والبيئية والحوكمة لا يتعلق فقط بخلق بيئات عمل أفضل؛ بل يتعلق أيضًا بمعالجة التفاوتات العميقة التي تغذي الصراعات، والنزوح، وعدم الاستقرار، في جميع أنحاء العالم، فالفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة في اتساع دائم، أكان ذلك بين الدول أو على المستوى الداخلي. كما أن مزايا العولمة يجري توزيعها بشكل غير متساوٍ، فيستمر عيش الملايين في حالة الفقر.
وبالتالي فإن تحقيق التنمية المستدامة يستدعي الحد من الفقر وتعزيز العدالة الاجتماعية. يجب على الدول الثرية تخصيص حصة عادلة من دخلها الوطني لدعم البلدان الفقيرة في مسيرتها نحو التنمية المستدامة. وذلك يستدعي منا إنشاء أنظمة تضمن التوزيع العادل للثروات وإتاحة الفرص للجميع. وبدون معالجة أوجه عدم المساواة، لن نتمكن من بناء مستقبل مستدام.
إن للحكم الرشيد أهمية بالغة، فهو بمثابة العمود الفقري لقدرتنا على مواجهة الأزمات. ومن دون الشفافية، والقيادة الأخلاقية، والمساءلة والعدالة، لن يتسنى لنا التصدي للتحديات البيئية والاجتماعية التي تهددنا. وقد تشرفت بالعمل كعضو في فريق رفيع المستوى من الشخصيات البارزة التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة بشأن أجندة التنمية لما بعد عام 2015، وأنا فخورة للغاية بالأهداف التي حددناها، وخاصة الهدف السادس عشر، الذي يركز على تعزيز المجتمعات السلمية والشاملة، وضمان العدالة للجميع، وبناء مؤسسات مسؤولة.
ومع ذلك، أشعر بحزن عميق لعدم إحراز تقدم في تحقيق هذه الأهداف. إن الدفع قدما باتجاه تنفيذها بات اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى. وبدون تحقيق الهدف السادس عشر على وجه الخصوص، فإن أساس الاستدامة سوف ينهار مما سيشكل تهديدا للسلام الإقليمي والعالمي وعلى نحو قد لا يمكن تلافيه.
إن الشفافية والمساءلة، والعدالة، والقيادة الأخلاقية شروط أساسية للحوكمة باعتبارها ركيزة لمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. ومع ذلك، فإن الفضائح المتتالية تكشف عن احتيال الشركات والفساد الحكومي، من خلال إعطاء الحلفاء الأقوياء الأولوية لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل على حساب الاستدامة طويلة الأجل.
إن قطاع التكنولوجيا يعزز تراجع الحوكمة من خلال تمكين الكراهية وانتهاكات الخصوصية والتضليل المعلوماتي، في حين تعطي الشركات الأولوية لعائدات المساهمين على حساب المخاوف الاجتماعية والبيئية طويلة الأجل، وهذا التوجه قصير الأجل يقوض الاستدامة الحقيقية.
وأود هنا تسليط الضوء على نداء عاجل يحث على العمل من أجل العدالة. إن الصراعات العالمية التي نشهدها اليوم ليس إلا أعراض لفشل أعمق - فشل في الحوكمة الدولية وفشل في العدالة العالمية. إننا أمام نقطة تحول والقرارات التي نتخذها الآن هي من سيحدد ما إذا كانت الأجيال القادمة سترث كوكبًا صالحًا للعيش أم كوكبًا مدمرًا نتيجة الفوضى المناخية والصراعات.
واعتقادي أنا هو أننا قادرون على ترك عالم أفضل للأجيال القادمة ـ عالم مليء بالأمل والعدالة والاستدامة. ويتعين على الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية أن تلزم نفسها بمعايير أعلى. وأنتم، أيها الحضور هنا في هذا المؤتمر ـ قادة الصناعة والحكومات ـ بوسعكم، بل ويتعين عليكم، أن تكونوا أنتم من يقود هذا التغيير.
كما أعتقد أن المجتمعين اليوم في شنغهاي قادرون على قدح الشرارة الأولى نحو التبني العالمي لمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، وضمان الاتساق والشفافية والمساءلة في جميع القطاعات. إن الافتقار إلى معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية المتسقة بقدر ما يشكل تحديًا كبيرًا إلا أنه ليس مستحيلًا. نحن بحاجة إلى مزيد من توحيد المعايير لضمان الشفافية والمساءلة، وإلى إطار يلزم الشركات بالمساهمة في الاستدامة العالمية - ليس الشركات وحدها، بل والحكومات أيضًا.
وللمساهمة في تحقيق الاستدامة العالمية ورفاه البشرية، نحن بحاجة لمثل هذه الآلية الملزمة. وأعتقد أنكم قادرون على ذلك. إن العدالة هي أساس التنمية وأساس كل مستقبل مستدام. لقد تم إنشاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية للحفاظ على السلام والعدالة، ولكنهما في حاجة ماسة إلى الإصلاح. وكثيراً تصيب المصالح السياسية هذه المؤسسات بالشلل، فتعجز عن اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف الفظائع أو محاسبة المسؤولين عن تدمير كوكبنا.
كما أعتقد بأنكم، أيها الحضور في هذا المؤتمر، قادرون على لعب دور أساسي في الدفع نحو تحويل الأمم المتحدة إلى هيئة قرارها ملزمة وقادرة على معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، ومكافحة تغير المناخ، ومحاربة الفقر العالمي، وتعزيز السلام. وهذا ليس بحلم بعيد المنال، بل حلم قادرون على تحقيقه، إنه مسألة تتعلق بالأمن والاستقرار العالميين.
وأخيرا، أقول لكل زعماء العالم، وخاصة الحاضرين في هذا المؤتمر ــ بما في ذلك الحكومات والشركات ــ أقول للجميع: لقد انتهى وقت الكلام وحان وقت العمل. إن أهداف التنمية المستدامة ليست مجرد تطلعات، بل هي خارطة طريق للبقاء وتحقيقها يتطلب التضحيات، والإصلاحات الجريئة، والالتزام المشترك ببناء عالم عادل ومستدام. والجيل القادم يراقبنا، ولن يغفر لنا إذا فشلنا، والتاريخ سيحكم علينا من خلال أفعالنا لا أقوالنا.
لنقتنص هذه اللحظة ونعمل بحزم ونترك إرثًا من السلام والعدالة والاستدامة للأجيال القادمة، ولنكون نحن المحفز للتغيير، فننتقل من مجرد شهود على الدمار إلى مهندسي لمستقبل أفضل وأكثر استدامة. وهنا أدعو الصين، باعتبارها قوة عالمية ومضيفة لهذا المؤتمر، إلى اتخاذ موقف جريء في تعزيز الاستدامة، فمجال نفوذها يمتد إلى ما هو أبعد من حدودها، وقيادتها ضرورية للتقدم العالمي. ونحن بحاجة إلى مبادرات تتجاوز المصالح الوطنية وتضع رفاهة كوكبنا في المقام الأول، فالقيادة الحقيقية لا تقاس بمقدر ما نكسب، بل بقدر استعدادنا لتقديم التضحيات في سبيل الصالح العام للبشرية.
شكرا جزيلا!