كلمات
كلمة توكل كرمان في جامعة مونتيري بمناسبة الذكرى 80 لتأسيسها - المكسيك
في بداية كلمتي هذه أعبر عن سعادتي لمشاركتكم الاحتفال بمرور 80 عاماً على تأسيس جامعة مونتيري. هذه مناسبة تستحق الاحتفاء والوقوف أمام ثمانين عاماً من التراكم الذي تمثله هذه المؤسسة الأكاديمي، وهي من جهة ثانية مناسبة للوقوف أمام التحديات المستقبلية لتطور جامعة مونتيري وتنمية قدراتها على مواكبة المتغيرات في مجتمعها والعالم.
هذه المتغيرات منها ما هو تكنولوجي وعلمي، وتغيرات اقتصادية واجتماعية، وتحديات أخرى في البيئة المحلية والعالمية، تضع عالمنا كله أمام تغيرات وتأثيرات متسارعة وشديدة الخطورة، ناتجة عن الحروب وارتفاع حدة الصراعات الجيوسياسية وأزمات الغذاء والطاقة.
أعبر عن إعجابي بحيوية مجتمعكم ومؤسساتكم. كنت هنا قبل عام أشارك في مهرجان مدينة كريتارو، كذلك شاركت في أبريل الماضي في مؤتمر نظمته جامعة المكسيك الوطنية.
واليوم أعود إليكم، وهذه المرة في جامعة مونتيري العريقة للإحتفاء بمرور ثمانية عقود من مسيرتها العلمية، ولنتبادل الآراء حول تحديات وقضايا تقف أمامنا جميعا وتتطلب تبادل الحديث والنقاش حول الموضوعات التي تهمنا في عالم يحث الخطى نحو تغييرات كبيرة في النظام العالمي.
من منبر هذه الجامعة العريقة أخاطب الأجيال الجديدة من الطلاب. بدأتم قبل ثمانين عاما ب 350 طالباً، واليوم تضم هذه الجامعة وفروعها مئة ألف طالب في جميع الفروع العلمية والتخصصات. هذا الجيل من الطلاب والشباب، إلى جانب زملائهم في بقية جامعات المكسيك والعالم هم من أخاطبهم اليوم ، وهم من سيواجهون التحديات التي تواجه مجتمعاتهم وعالمهم.
دعوني أخالف من يقدمون لكم الإجابات الجاهزة ، لأقول أمامكم أننا نلتقي لنتشارك في طرح الأسئلة، لنتبادل الآراء حولها ونفكر معاً في وضع الإجابات والمقترحات وما الذي يمكننا فعله للتأثير في شكل الحياة الجديدة والعالم من حولنا.
وقوف الطلاب في ساحة الحياة العلمية في الجامعة ونجاحهم في إثبات أنفسهم علمياً ليس كل شيء. الأهم هو ان يكون الجيل الجديد قادرا على تثبيت قدميه في ساحة الحياة والمشاركة الفعالة في صنعها وفق أحلامه وتطلعاته.
وجود مؤسسات علمية راسخة ومتجددة ، مثل جامعة مونتيري ، يساعدكم في التأهيل واكتساب المعارف والقدرات ، لكن الأهم أن يكون هذا الجيل قد أكتسب القدرة على التفكير. ان يكون جيلا فعالا يواصل عمل أجيال سبقته ، كافحت من أجل حياة أفضل يتمتع فيها الإنسان بالحرية والكرامة ويجد فرصاً أفضل للمشاركة والإبداع.
رسالتي للجيل الجديد من الخريجين هي أن يجهزوا أنفسهم لتجاوز من سبقهم. غالبا لا تأتينا الحلول جاهزة من حكومات مكبلة بإرث من المعوقات والقيود التي تفرضها صراعات قوى تعيق الدولة والمجتمع عن مواجهة أولويات المجتمع ومتطلبات نموه وتطوره. تعرفون التحديات التي تواجه بلدكم أكثر مني. أنتم جيل جديد يتحمل مسؤلية إبتكار مقاربات جديدة للنهوض ببلدكم ومجتمعكم.
لا شك عندي أن هذه المؤسسة التعليمية العريقة كان لها دور مهم في تأهيل أجيال من الطلاب والطالبات. إن مقدرة الجيل الجديد من خريجي الجامعات وإستعدادهم للمشاركة في توليد وتطبيق المعرفة عنصر أساسي للتطور في مجتمعاتهم. فالأولوية يجب أن تعطى لتعليم النساء والرجال لكي يمكنهم التعليم من إكتشاف طريق تطوورهم الخاص، وتطبيق معرفتهم في خدمة مجتمعهم. يجب أن تاخذ الحكومات دورها وتقوم بمسؤولياتها من ناحية فرض سلطة القانون ومكافحة الجريمة المنظمة، والاستثمار الاقتصادي وتوفير فرص العمل وإستيعاب الطاقات الشابة ومساعدتها لتقوم بدورها في التجديد والتغيير وإبتكار حلول جديدة في مواجهة تحديات جديدة تواجههم وتواجه مجتمعهم.
لا يمكن تأسيس نظام سياسي فعال ولديه المرونة والقوة ما لم يتم بناءه على مبادئ الديمقراطية والعدالة وحكم القانون. إن التمسك بمثل هذه المبادئ يفضي إلى الاستقرار والشرعية الضروريان لتحقيق التنمية الإقتصادية والبشرية، ولكسب تأييد كافة فئات المجتمع الذي يهدف النظام إلى خدمتهم.
وفي هذا المنعطف في طريق تطور جامعة مونتيري، ومؤسسات التعليم عموما في بلدكم، فإن البحث عن القيم المشتركة وترسبخها هو شيء أساسي للعمل الفعال. إن الاهتمام المقتصر على الاعتبارات المادية سيفشل في تقدير مدى تأثير المتغيرات السياسية والإقتصادبة والأيدلوجية والثقافية على مجتمعكم وبلدكم، وقدرتكم على إتخاذ القرارات ومواجهة التحديات الجديدة.
لديكم تحدياتكم الخاصة في المكسيك، لكنكم لم تجربوا بعد إنهيار الدولة، وما الذي ينتج عنه، وهذه عشناها وما نزال في بلدي اليمن بسبب الإستبداد وصراعاته الداخلية التي ضحت بالدولة انتقاماً من الثورة الشعبية في 2011، وبسبب حروب اقليمية تخاض في بلدنا تديرها أطماع للهيمنة على بلدنا وثرواتنا الوطنية.
العالم يتغير، وينذرنا بأزمات عديدة ناتجة عن الحروب والصراعات الجيوسياسية والإقتصادية. وان تنسيق جهود عالمية مشتركة لمواجهة الأزمات تتطلب منا جميعا التقدم بالمبادرات وتوسيع العلاقات بين مؤسسات المجتمع المدني ومنضمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية الدولية والمؤسسات التعليمية، للإرتقاء إلى مستوى المسؤوليات المشتركة للتأكيد على قيم الديمقواطية والعدالة وحقوق الإنسان ومواجهة أزمات الفقر والهجرة والأزمات الإنسانية الناتجة عن الحروب والصراعات المتزايدة في العالم.
إن مسألة القيم يجب أن تأخذ المكان الرئيس في المشاورات، وأن تحظى بالتفصيل والوضوح. من شأن ضمور قيم التضامن واحترام حقوق الإنسان والمسؤولية المجتمعية أن تضعف محتمعاتنا في بيئة محلية وعالمية تتفاقم فيها أزمات المعيشة والطاقة والحروب.
لا يمكننا أن نبقى متفرجين وترك مصائرنا تقررها دول الصراع العالمي التي لا تهتم إلا بمصالحها. السلبية التي تطبع قبولنا بأفكار وآراء الآخرين حول المسائل العالمية لا تمكن مجتمعاتنا من إستنهاض مواردها وقواها للتخفيف من التأثيرات السلبية لسلسلة الأزمات العالمية المتفاقمة. فالمطلوب هو، البحث النشط لتلك القيم المشتركة والمبادئ الإنسانية والأخلاقية التي تمكن محتمعاتنا من العمل من أجل تحقيق أولوياتها في التنمية السياسية والإقتصادية وترسيخ عوامل الإستقرار والحكم الرشيد ومكافحة الفساد والجريمة .
من شأن الإستقرار الداخلي للأنظمة الديمقراطية أن يمكن مجتمعاتها وبلدانها من المشاركة بأدوار فعالة عالمياً مع إتساع بيئة متفجرة بالأزمات لن تبقى دولة في العالم بمعزل عن تأثيراتها السلبية.
في تفكيرنا بالتحديات الراهنة الناتجة عن الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على قضايا الديمقراطية وأزمات الطاقة والغذاء والحريات والأمن العالمي، نجد أن البحث عن إحابات لهذه الأسئلة يضعنا أمام مجموعة من القضايا المترابطة، سواء كانت القضية هي أزمات الإقتصاد والديمقراطية ومخاطر الحرب النووية، أو التغيرات المناخية والأمن العالمي، فإنه من الواضح أنه لا يمكن إيجاد حل لأي من المشاكل التي تواجه البشرية على نحوٍ كافٍ بصورة منعزلة عن بعضها البعض. إن الرؤية غير الواضحة للحدود الوطنية في وجه الأزمات العالمية أظهرت دون شك بأن عالمنا يمثل كياناً واحداً لا يمكن عزل بعض أجزاءه عن البعض الآخر.
إن المواجهات بين الدول الكبرى في مناطق الحروب والتوترات في أوكرانيا وتايوان ، والتي تمتد إلى مواجهات في مجالات الإقتصاد والطاقة والغذاء وغيرها تتطلب من كل الدول الفقيرة والمهددة أن تتخذ تدابير مناسبة لمواجهة تأثير هذه الأزمات ، وممارسة الضغوط الدبلوماسية والسياسية على الدول الكبرى لتحمل مسؤلياتها في التخفيف من آثار صراعاتها والأزمات الناتجة عنها.
لقد عاد سباق التسلح إلى قمة أولويات الدول في أوروبا وأمريكا والعالم كله، وارتفعت مخاطر الحرب النووية بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ.
دفعت البشرية أثماناً باهضة نتيجة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهاهي اليوم تواجه من جديد إحتمال توسع الحروب القائمة اليوم إلى حرب عالمية تهدد البشرية بالفناء مع تطور أسلحة الدمار الشامل.
إننا نرفع أصواتنا اليوم لتوحيد قوى العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان في بيئة عالمية خطرة تفتح باب الإحتمالات السيئة على مصراعيه وتهدد بتقويض ما اكتسبته البشرية خلال قرون من الكفاح والنضال المستمر. وفي مواجهة الحرب المتفجرة في أوكرانيا وتوتر الجغرافيا السياسية بين الدول الكبرى حول تايوان، وتصاعد التوترات والصراعات في أفريقيا، وأزمة الاقتصاد العالمي وسلسلة أزمات الطاقة والغذاء وسباق التسلح العائد بقوة منذرا باحتمال تطور الحرب الى حرب عالمية ثالثة، نلتقي اليوم لنؤكد تمسكنا بقيم الحرية والديمقراطية، ولنعيد التأكيد على تطلعاتنا لبناء عالم جديد تسود فيه قيم العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة، ويعمه السلام والأمن وروح المسؤولية والتضامن الإنساني بين البشر.
ان التغيير والمرونة لمواجهة التحديات الجديدة يبدأ من تغيير التوجهات العالمية امام كل المخاطر المهددة للديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وقيم الحرية والسلام والإستقرار العالمي.
ان كفاحنا من أجل قيم إنسانية مشتركة تعلي من مكانة الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان وحكم القانون سيبقى هدفاً عالمياً يجمع البشر من حوله على إختلاف أعراقهم ودياناتهم ودولهم. ولمثل هكذا توجهات نجتمع هنا لنرفع صوتنا ونعبر عن إصرارنا لبناء رؤية عالمية متشابكة تعيد لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان مكانتها، وتعيد تعريف البشر بانتماءاهم الإنسانية المشتركة والمصالح التي تجمعهم والمصير المشترك لحياتهم وعالمهم لا بصراعات الدول الكبرى التي تحركها أطماع السيطرة وتفرضها مصالح جيوسياسية و أنظمة فاشية ومغامرات شخصية لقادة متعطشون للحروب ولا يخلفون وراءهم سوى الجثث والمقابر والأرض الخراب.
هل نبدو مغفلين عندما نتحدث عن الحرية والديمقراطية والعدالة في بيئة عالمية تسيطر عليها حمى الحروب وسباق التسلح والأزمات؟
لا نرى ذلك. لا نرى أنفسنا إلا في تأكيد قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وحكم القانون.
المغفلون هم من يستسلمون لموجة الصراعات الجيوسياسية الدولية التي تهدر حقوقهم وحرياتهم تحت مبررات الحروب وضروراتها.
الحرية بالنسبة لنا هي الكرامة. لقد سميت ثورات الربيع العربي بثورات الكرامة، وهذه أكثر تسمية تعبر عن الربيع العربي. الكرامة هي أن يعيش الإنسان كمواطن له حقوق مصانة، ومحمي بقوة القانون، ودولة القانون التي تسهر على تطبيق القانون وحماية مواطنيها، ولا تتيح مجالا لاستخدام السلطة العامة للإيذاء أو للبقاء فيها عبر استغلال مؤسساتها في خدمة إرادة جزئية فردية أو عائلية أو لمصلحة طائفة او سلالة.
نريد ان تكون الدولة أداة بيد الشعب تسعى لتطوره ورفاهه وتنميته وخدمته، لا أداة نستخدم ضده من قبل نظام مستبد وفاسد يستحوذ على الدولة ومقدرات الشعب ويحاربها بها.
نحن لا نسعى لشيء غريب لم تعرفه البشرية. نحن نحلم ونكافح من أجل قيم ومكتسبات أنجزتها شعوبا أخرى قبلنا بعشرات السنين.
السلطة في بلداننا تحولت الى أداة بيد عصابات، واستخدمت للإفساد والإغتيالات والتصفيات والاعتقالات للمعارضين والخصوم. السلطة في بلداننا استخدمت لاهدار ثرواتنا ومستقبل شبابنا وشاباتنا. جربنا الاستبداد وفشل. وهذا الاستبداد لم يبرر نفسه حتى بما فعلته ديكتاتوريات مماثله حكمت بلدانا أخرى لفترة من الزمن وانتهت لتفسح الطريق نحو مستقبل أفضل أمام مجتمعاتها.
قوى الحرب والمستبدون وحلفاءهم ومخلفاتهم من الجماعات الإجرامية هم من يجدفون ضد تيار الحياة وليس نحن.