كلمات
يسعدني أن أشارككم الحديث حول مستقبل البشرية والتحديات التي تواجه العالم اليوم في مختلف المجالات ، والتفكير في الممكنات لمواجهة هذه التحديات والعمل من أجل مستقبل أفضل لكل الناس.
إلى ماقبل سنوات قليلة كانت التحديات المناخية والبيئية والإحتياس الحراري هي الشاغل الأول للندوات ومراكز الدراسات والبحوث والجامعات ، مع إزدياد درجة حرارة الأرض والتغيرات المناخية والتهديدات المترتبة عنها. كان ذلك يبرز كتحدٍ أول ومن بعده تأتي تحديات الفقر والتنمية المستدامة والديمقراطية وقضايا الحريات وأوضاع المرأة والمساواة وغيرها من التحديات العالمية.
لقد تغير ذلك تماما في السنوات الثلاث الماضية. لقد برزت التحديات الوبائية إلى الواجهة قبل ثلاث سنوات مع جائحة كوفيد 19 وتأثيرها السريع والمميت على كل البشر في كل الدول والمجتمعات. ومع انفجار الحرب في أوكرانيا بعد الغزو الروسي أعيد ترتيب جدول التحديات التي تواجه البشرية ومستقبل البشر ، فقد قفزت مخاطر الحرب العالمية النووية إلى المقدمة مع تصاعد الصراع والحرب والتوتر الناتج عنها بين روسيا وحلف الناتو ، وبجانبها التوترات في تايوان والصين ، وهي صراعات تنعكس على العالم كله وترفع من سخونة الصراعات في مناطق عديدة في العالم تتأثر بسخونة التوتر بين الدول الكبرى والصراعات فيما بينها.
إن مخاطر الصدام بين الدول الكبرى ليست الخطر الوحيد الناتج عن الحرب الناتجة عن الغزو الروسي لدولة أوكرانيا. مع بدء الحرب هناك كانت هناك أزمة اقتصادية عالمية نتجت عن متوالية من أزمات الطاقة والغذاء واللاجئين عمت أوروبا والعالم كله.
هذا الوضع المتفحر عالمياً أعاد ترتيب الأولويات والتحديات أمام الجميع ، الدول والمنضمات الحقوقية والمدنية ومراكز الدراسات والبحوث والجامعات والمهتمين بمستقبل البشرية والتحديات التي تواجهها. ان تصاعد الحروب والصراعات العنيفة ينذر البشرية بارتداد واسع عن الديمقراطية وحقوق الانسان ، وسوف اركز حديثي على هذه المخاطر المتعلقة بالحريات والديمقراطية وحقوق الانسان.
ان الحديث عن مستقبل البشرية يقودنا الى استشراف افاق مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكتسبات الدولة الحديثة التي راكمتها عبر نضالات استمرت عشرات بل ومئات السنين عانت فيها المجتمعات من الظلم والقهر والاستبداد وقدمت تضحيات مهولة قبل ان تحقق للانتقالات التي أدت الى بناء الدول الحديثة على أسس تحترم مواطنيها وتخضع لإرادتهم وتسهر على حمايتهم وتقوم مؤسساتها وقوانينها على إحترام حقوق الانسان الاساسية والعدالة والإنصاف والمساواة والإحتكام لسلطة القانون وموجباته النافذة على الجميع.
ما الذي يمكن أن نقوله اليوم عن مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان ، في عالم تسوده حرب تهدد العالم بشبح الأسلحة النووية ، ومعها تعم كوارث طبيعية ، وارتدادات نحو الاستبداد والتسلط في الشرق الأوسط وأفريقيا بعد سنوات قاسية من حروب الثورات المضادة للربيع العربي؟
ربما يقول قائل أن الديمقراطية لم تعد أولوية ، وأن العالم يرتد الى عصور العنف والحروب الكبرى وصراع يسعى لتحديد وجه العالم والنظام الذي سوف يسوده خلال القرن الواحد والعشرين بناءا على موازين القوة وترسانات الأسلحة الفتاكة ومعادلات صراع لا تأبه بالديمقراطية والحقوق والحريات والعدالة والمساواة.
غير ان ذلك ليس مبررا لتهميش الديمقراطية ومكاسب الدولة الحديثة التي ترسخت في الغرب وامتدت بعض تاثيراتها الى قارات العالم وحضاراته المختلفة . إنني أرى العكس تماما. أرى أن هذا الارتداد الناتج عن الحروب يُعلي من شأن الديمقراطية ويعيد لها الاعتبار . هذه التهديدات بالعودة الى عصور الظلام تقوي عزائمنا للتمسك بنظام انساني يتيح المشاركة والرقابة وينحاز للمساواة ولقوانين تحترم حقوق الإنسان وتصونها.
بقدر ما تظهر اليوم أهمية القوة وترسانات الأسلحة في الصراع العالمي ، بالقدر نفسه ندرك اليوم أهمية ما راكمته البشرية من قوانين وتقاليد تضمن بناءً الدولة على أسس تصون الحقوق والحريات وتؤسس الدولة ودستورها وقوانينها على إحترام الإنسان واعتباره مناط بناء الدول بما يضمن حقوقه وكرامته وحريته وحقه في العدالة والمساواة والمشاركة والحياة بكرامة.
دعونا نخبركم بما نعتقده ، وما أفصحنا عنه قبل أن يشهد العالم الغزو الروسي لأوكرانيا ، والذي يصدم العالم اليوم. ربما تعتقدون أن تراجع الديمقراطية يحدث الآن لأن دولتان كبيرتان مثل الصين وروسيا وبجانبهما إيران وكوريا الشمالية ، تقفا اليوم في حالة إستقطاب حاد ومواجهة مع الغرب الديمقراطي. هذه دول في حالة تضاد مع الديمقراطية وما يرتبط بها من حقوق وقوانين، لكن الحقيقة غير ذلك. لقد بدأ تجاهل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من سياسات الغرب الديمقراطي لا من ديكتاتوريات لا يراهن عليها أحد في دعم الديمقراطية.
برأيي، أن خذلان الغرب الديمقراطي للربيع العربي كان بداية لهذه التوجهات العالمية التي تتراجع فيها الديمقراطية وحقوق الانسان ، مفسحةً المجال لصراعات من نوع مختلف تهدد بإعادة البشرية إلى عصور الظلام ، بل وتهدد بتدمير الحضارة الإنسانية برمتها بحرب نووية.
أي توجهات تدعم التحولات الديمقراطية كان يفترض أن تكون معنا في الربيع العربي ، لا أن تكون أسيرة للمخاوف. بإمكان دول الغرب الديمقراطي أن تضمن مصالحها في شرق أوسط ديمقراطي. هذا ممكن ومتاح. هذا سؤال جوهري : هل تعتمد مصالح دول الغرب في منطقتنا على وجود أنظمة إستبدادية وديكتاتوريات معادية لشعوبها ، وميليشيات وحروب مستدامة؟
يمر العالم بمرحلة فارقة تشهد حالة إرتداد عالمي غير مسبوق عن قيم التعايش والتآخي والديمقراطية وحقوق الإنسان ومجمل منظومة القيم الإنسانية التي بقيت هاجساً للبشرية عبر مئات السنين حتى تمكنت من بلورتها في منظومتها الحقوقية والقانونية منتصف القرن الماضي بعد حربين عالميتين داميتين أهلكت عشرات الملايين من البشر.
ان استعدادنا لاختيار نوع المستقبل الذي نريده لنا ولكل البشر يحتم علينا الانحياز لبناء توجهات متوازنة ضامنة لحقوق الشعوب والديمقراطية وحقوق الإنسان بدون تمييز بين دولة وأخرى.
الردة العالمية بإتجاه الحروب والعنصرية والكراهية والنزعات العرقية المتطرفة ، تأتي كلها إمتداداً للردة المدعومة عالمياً في المنطقة العربية التي مثلتها الثورات المضادة للربيع العربي.
الحديث عن مستقبل الديمقراطية يضع أمامي تساؤلاً كهذا : لماذا تواطأ الغرب الديمقراطي مع حرب اقليمية قامت بها ايران والسعودية في مواجهة ثوراتنا ، وهي ثورات سلمية إنتزعت إحترام العالم ، وفي جوهرها هي تطلعات لنظام ديمقراطي حديث.
أيها الأعزاء :
أننا نقف أمامكم اليوم لنذكركم ونذكر أنفسنا ونذكر العالم بقضيتنا التي خرج الناس من اجلها في ثورات الربيع العربي، في عالم يمضي من جديد بوتيرة متسارعة بإتجاه الحروب وتضخيم ترسانات الأسلحة الفتاكة وإحياء الصراعات الإمبراطورية والجيوسياسية بين الدول ونزعاتها للهيمنة المسلحة مخلفاً في الهامش قضايا الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وارادة الشعوب وحقها في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتغييرهم.
ان التمسك بحق الشعوب في اختيار حكامها والمشاركة في السياسة كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وبناء تحالف عابر للحدود والحواجز الدينية والعرقية والحضارية بين شعوب العالم للدفاع عن منظومة القيم العصرية ، هي مهمة عالمية وليست فقط حاجة ملحة للشعوب العربية التي تواجه ثورة مضادة تهددها بمستقبل أكثر ظلاماً من الديكتاتوريات التي سادت في العقود الأخيرة من القرن الماضي.
لن نمل من تكرار ماحدث للربيع العربي.
فشل ثوراتنا الشعبية هو انتكاسة لمستقبل العالم .. لمستقبل الحرية والديمقراطية والسلام.
لقد قال الربيع العربي كلمته : أن في هذه المنطقة من العالم شعوباً تمور برغبة جامحة للحاق بالعصر وقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان عبر تحول ديمقراطي حقيقي يحول الدولة من أداة سيطرة وقمع وقتل جماعي للمجتمع وطموحاته ومقدراته إلى حيز يتشارك كل المواطنين في صنع السياسة من خلاله ، وينتجون توافقاتهم وإجماعاتهم عبره ويديرون خلافاتهم وتنافسات برامجهم تحت رعايته كمؤسسة جامعة لكل المواطنين.
لم تكن ثوراتنا الشعبية نزوة عابرة تقفز على الواقع بل حاجة واقعية تأخرت سنوات طويلة حتى ظن الطغاة أنهم هم قانون الحياة وليس الحرية والكرامة والعدالة.
أعزائي عزيزاتي:
كل ماهو أمامنا اليوم ينبيء بمستقبل تنتشر فيه الشوفينية والحروب والتناحرات والصراعات المتطرفة ، وبمزيد من التراجعات عن الديمقراطية وحقوق الانسان . لا أريد أن أقول أن الإرتداد عن الديمقراطية عبر العالم قد بدأ مع الغزو الروسي لأوكرانيا ، ولكن بإستطاعتي القول أن ذلك الغزو وما أدى إليه قد أنتقل بنهج الارتداد العالمي عن الديمقراطية إلى نقطة حرجة تؤسس لحقبة زمنية جديدة مناقضة للديمقراطية وحقوق الإنسان ، ومواجهات عالمية من الحروب والصراعات الحادة والأزمات الإقتصادية ، وهو ما نعيشه ونشاهده في أوروبا والعالم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
إن الحروب وسياسة القوة والغزو تهدد العالم كله بسلسلة من أزمات الإقتصاد والطاقة والغذاء سيكون لها تأثيراتها على كل مجالات الحياة ، ولعل من أبرز انعكاساتها تراجع الديمقراطية وحقوق الانسان في العلاقات الدولية ، وانتشار مناخ ملائم للديكتاتوريات والشوفينيات القومية والعنصرية في أوروبا والعالم كله.
لست من الذين يميلون إلى التشاؤم ، ولكن إنحيازنا لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان يحتم علينا إدراك مخاطر الإرتداد العالمي عن الديمقراطية وابتكار المبادرات الملائمة لمواجهة تأثيرات الحروب والصراعات العالمية وما تنذرنا به من إحتمالات تغيير عالمي يرتد بالبشرية إلى صراعات لا تقيم وزناً للقيم الإنسانية وتعيد العالم الى زمن الحروب الوحشية والغزو والمذابح والقتل الجماعي.
ان مسؤلية العالم الديمقراطي في أوروبا وأمريكا في حماية الديمقراطية تضعه أمام تحديات كبيرة ، ذلك ان مواجهة الفاشية لا يكون بالمضي معها في نفس طريق الإرتداد عن القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي ميزت العلاقات الدولية في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية وما شهدته من مآس مروعة هزت أوروبا والعالم.
نلتقي اليوم بينما تشهد أوروبا حرب غزو لم تكن تخطر على بال احد ، وهو حدث يكمل قوس الارتداد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الدولة الحديثة الذي بدأ بتواطؤ الديمقراطيات الغربية مع الحروب المضادة لثورات الربيع العربي في العشرية الماضية.
ان عودة الفاشية لتهديد أوروبا ليس منقطع الصلة عما سبقه من احداث في الشرق الأوسط.
عندما يصمت العالم على الحروب الفاشية في مناطق بعيدة لا ترى الدول الكبرى انها تهدد أمنها ، فإن عليه ان يتوقع انتشارها ووصولها إلى البلدان البعيدة التي اعتبرت في مأمن من حروب في الشرق الاوسط والعالم الثالث.
لقد وجدت الانظمة الانقلابية المستبدة والميليشات الطائفية والجماعات المتطرفة من يعترف بها ويتصالح مع جرائمها ؛ في الوقت نفسه أعلنت الحروب على الثورات الشعبية السلمية والمجتمعات التي رفعت شعارات التغيير والحرية والديمقراطية ، وتجرأت على الخروج في وجه الانظمة القمعية الفاشلة.
ان التهديدات التي تواجه الديمقراطية وتواجه أوروبا والعالم تتطلب تغييراً هيكليا وإعادة نظر في السياسات العالمية.
ان التغيير والمرونة لمواجهة التحديات الجديدة يبدأ من تغيير التوجهات العالمية امام كل المخاطر المهددة للديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الحرية والسلام والإستقرار العالمي.
دعونا نكون صريحين ونقول ان التغيير يحتاج نظرة عالمية واسعة ترى صعود الفاشية خطرا أينما كانت ، في الشرق الاوسط وافريقيا او في أوروبا والغرب.
ان عالم اليوم ، واقصد النطام العالمي والدول الغربية الكبرى ، قد التزم الصمت أمام أنظمة فاشية لأنها هناك في الجهات البعيدة التي لا تهدد أوروبا ، وأعني ايران والسعودية على سبيل المثال ، وكلاهما شن حروبا عدائية ، وتدخلات تنشر الحروب الأهلية والإضطرابات وانهيار الدول وإحلال الميليشات كفاعل أساسي بديلاً عنها.
ان قضايا الديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان تأخذ حزمة واحدة ولا تجزأ بين عالم متحضر وآخر ينظر اليه خارج الحضارة والإنسانية.
متى ندرك اننا نعيش في عالم واحد تربطه مصالح متشابكة وعلاقات متداخلة ويتأثر بمصائره المشتركة مهما تنوعت ؟
ان كفاحنا من أجل قيم إنسانية مشتركة تعلي من مكانة الديمقراطية وحقوق الانسان سيبقى هدفاً عالمياً يجمع البشر من حوله على إختلاف أعراقهم ودياناتهم ودولهم. ولمثل هكذا توجهات نجتمع هنا لنرفع صوتنا ونعبر عن إصرارنا لبناء رؤية عالمية متشابكة تعيد لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان مكانتها ، وتعيد تعريف البشر بإنتماءاهم الإنسانية المشتركة والمصالح التي تجمعهم والمصير المشترك لحياتهم وعالمهم لا بصراعاتهم العرقية والعنصرية والحروب الفاشية التي تفرضها عليهم أنظمة فاشية ومغامرات شخصية لقادة متعطشون للحروب ولا يخلفون وراءهم سوى الجثث والمقابر والأرض الخراب .
ختاماً لكلمتي؛ أؤكد أمامكم أن الفاشية مهزومة وستسقط في مزبلة التاريخ ، مهما كانت الأثمان التي تفرضها على البشرية من قتل وترويع وخراب. ان قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ستبقى ما بقي البشر على وجه الأرض.
وسوف تنتهي الفاشيات الجديدة كما انتهت سابقاتها. العالم الجديد لن يكون إلا ما نؤمن به. المجد للكفاح الانساني المستمر من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان.