كلمات
في عالم يتجه نحو الحروب وتزداد فيه بؤر التوتر، وتتعاظم فيه كلفة النزاعات العنيفة وتأثيراتها، نجتمع اليوم لنجدد كفاحنا من أجل السلام وتبادل الرؤى حول الطرق المناسبة لتنمية الوسائل اللاعنفية لحل النزاعات.
كلنا يدرك اليوم كيف ان الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها قد أخفقت في احتواء نزاعات عديدة، وفي بعضها كان تدخلها مظلة لاستمرارية الحروب وادارة النزاعات ولم يثمر في إيجاد تسويات حقيقية قابلة للبقاء والاستمرارية.
ان ذلك يحتم علينا ان نوسع دائرة تفكيرنا ورؤيتنا للنزاعات إلى مدى يتجاوز التمنيات ويصل الى ادراك العوامل الحقيقية للعنف وديناميكيات استمراريته.
الاستقرار الذي يتحقق بانتصار قوة غاشمة على المجتمع وفرض نفسها بقوة الأمر الواقع على الداخل المحلي والمجتمع الدولي، هو استقرار وهمي، وتأبيد لحرب مكتومة تمهد لحروب أكبر منها.
إن السلام واللاعنف لحل النزاعات ليست منفصلة عن ما يحققه المجتمع من نجاح في الانتقال من الانظمة القامعة المغلقة وتغول الميليشيات، وبناء نظام متوازن ودولة قانون حديثة تضع العدالة والحقوق وسلطة القانون والمواطنة كأهداف اساسية لها ومعايير ناظمة لمؤسساتها ونهجها.
ليس استقرارا ولا سلاما ان يُقهر المجتمع ويتم اخضاعه بالقوة من قبل نظام مستبد او ميليشيات مسلحة متطرفة تعيده الى أزمنة العبودية. إن الاستقرار المنشود والقابل للبقاء هو ذلك الذي يقوم على وجود نظام حديث ومرن يستوعب مطالب المجتمع وتشارك فيه كل فئاته وقواه، وتمتلك القدرة على تغييره وفق الآليات الديمقراطية السلمية.
حق المجتمع في المشاركة وبناء دولة قانون يتساوى أمامها الناس كمواطنين دون تمييز هو الأساس الذي تقوم عليه مفاهيمنا للسلام والاستقرار.
ان فهم ذلك يقربنا من ادراك الاسباب الحقيقية للحروب والنزاعات، وابتكار الوسائل المناسبة لصنع السلام بعيداً عن الكلمات الإنشائية والتمنيات.
وهنا ساتحدث عن النزاعات والحروب واسباب اندلاعها والفشل في احتوائها بالوسائل السياسية واللاعنفية في بلدان الربيع العربي والشرق الأوسط.
كانت بلدان الربيع العربي قد عرفت أنظمة مستبدة مثلت حالة حرب متواصلة ضد مجتمعاتها. ان هذا الاستيلاء على سلطة الدولة بالقوة وفرض هيمنة فردية مستبدة ونخب عائلية وطائفية عليها كان هو الواقع الذي جندت الانظمة موارد الدولة وامكانياتها للحفاظ عليه عن طريق اخضاع المجتمع ومحاربة كل مخالف ومعارض للاستبداد والاستئثار بالحكم.
ان تأخر بناء الدولة كمؤسسة عامة تحفظ القانون وتطبقه دون تمييز قد فوت على مجتمعاتنا فرصة بناء حيوات سياسية فعالة وقادرة على ادارة الصراعات بالوسائل السياسية وتجنب الانزلاق الى العنف.
خرجت مجتمعاتنا في ثورات الربيع العربي السلمية لانجاز تغيير طال انتظاره، لكن الانظمة ومعها حلفاءها الاقليميين والدوليين اعلنوا الحرب وواجهونا بالعنف والقتل. هذه الحرب حركتها مصالح خارج بلداننا رأت في التغيير داخل بلاد العرب خطراً على مصالحها غير المشروعة المرتبطة بنظم تابعة وفاسدة ومستبدة.
ومن هذه الحرب التي ووجهت بها مجتمعاتنا المتطلعة للتغيير والدولة المدنية الحديثة، مرت جماعات مسلحة متطرفة وميليشيات طائفية وجدت الدعم والمساندة لتخوض حروبا بالوكالة في بلدان شهدت ثورات شعبية سلمية بشرت بتغيير حقيقي في منطقة راكدة تعفنت فيها انظمة استبدادية مؤبدة، وجماعات متطرفة هي نتاج لفشل هذه الانظمة وواحدة من اخطر مخرجاتها.
ان هذا العنف الوحشي لحروب الثورات المضادة والجماعات الطائفية وحروبها بالوكالة دمر مدننا وبلداننا التي تشهد حربا هي خليط من الحروب الداخلية والحروب بالوكالة والتدخلات الخارجية المباشرة لتقاسم النفوذ والمصالح.
وهنا نتساءل؛ هل السلام والاستقرار يتحققان بالرضوخ لقوى العنف والحرب والاستسلام لها كأمر واقع، أم ان الاستقرار الحقيقي والسلام المنشود يتطلبا منا ان ننظر لعدالة التسويات السياسية وألا تتحول الى مباركة لفاشيات فرضت نفسها بالعنف والحرب؟
هل ما ترونه في نموذج حكم حركة طالبان في أفغانستان والحوثيون في مناطق سيطرتهم داخل اليمن، وما تقوم به هذه الميليشيات من حرب يومية على السكان هو حالة استقرار؟ هل انتصار نظام الأسد على شعبه وتدمير مدنهم وقتل مئات الالاف منهم وتشريد الملايين وتمكين الدول الخارجية من تقاسم النفوذ داخل سوريا هو نموذج للاستقرار؟
الاستقرار لا يتحقق برضوخ المجتمع للفاشية والجماعات الطائفية المسلحة والمتطرفة. السلام والإستقرار وايجاد الحلول للنزاعات، كل ذلك لا يتحقق بمباركة المجتمع الدولي لسلطات جماعات ميليشياوية وإضفاء المشروعية عليها كأمر واقع.
ان ذلك، ان حدث، يمثل تضحية بالسلام والعدالة والقيم الانسانية، واستسلام أمام فاشيات مسلحة فرضت نفسها بالحروب والعنف. وذلك سوف يشجع على مزيد من الحروب والعنف باعتبار العنف هو القانون الذي يرضخ له العالم.
***
إن آليات حل النزاعات بوسائل اللاعنف داخل بلداننا تتطلب الوصول الى دولة قانون تمثل مصالح المجتمع وتشارك فيها كل قواه الفاعلة ومكوناته.
هذه الاليات لا زالت غائبة في الداخل السوري واليمني، مثلاً، لأن حروب الثورات المضادة والجماعات التي تخوض حروبها بالوكالة والاحتلالات الخارجية المتدخلة في حروب الداخل، كلها تعيق التسويات السياسية العادلة وحل النزاعات بالسياسة والتفاوض واللاعنف.
لقد فشلت اليات المجتمع الدولي في ايجاد حلول سلمية وسياسية لهذه النزاعات والحروب لأن مصالح الدول الكبرى ومعها الدول الاقليمية المتدخلة بالحروب لا يعنيها العدالة والسلام والديمقراطية.
لقد رضخ المجتمع الدولي والأمم المتحدة امام العنف الذي مارسته الانظمة والجماعات المسلحة الطائفية ، والتزموا الصمت امام هذه الفاشيات التي قامت على العنف كعقيدة لفرض وجودها. هذا الأمر الواقع ليس استقرارا ولا سلاما وانما انتصار للفاشية والعنف في أكثر صوره قبحاً، وهو عنف فاشي يزدري الانسانية جمعاء وينتقص منها ولا تقف تأثيراته على المجتمعات الواقعة تحت سلطاته البربرية.
ان العنف الذي تفجر في حرب اوكرانيا ليس الاول من نوعه ، فقد سبقته عشر سنوات من حروب فاشية وضعت كل شيء في بلدان الربيع العربي هدفا لها.
الحرب في اوكرانيا نتيجة متوقعة لعشر سنوات من سلبية المجتمع الدولي وتواطؤه مع حروب الثورات المضادة في المنطقة العربية.
عندما يسود العنف في المكان البعيد عنك فلا تتوقع ان تبقى بمأمن من وصوله اليك. نحن في عالم واحد، وإما أن يكون هناك توجه عالمي لمواجهة العنف والفاشيات على أسس من احترام حقوق الشعوب وقيم العدالة والحرية والديمقراطية، أو اننا سنواجه كل يوم قوى ودول تحاول فرض نفسها ومصالحها بالحرب والعنف خارج اطار اي مشروعيات وقوانين داخلية ودولية.
ان النظام المتوازن والعادل في داخل كل دولة وعلى المستوى الدولي سيعزز فرص حل النزاعات بالحوار والأدوات السلمية والسياسية.
ان السلام من وجهة نظري لا ينفصل عن قيم الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة والكرامة الانسانية، وكل فرد يستحق ان يتمتع بهذه الحقوق لكونه إنسان أولاً قبل أي تعريفات اخرى.
ان السلام لا يوجد حيث يسود الظلم والاستبداد والإقصاء والتمييز، وكل عسف ينتقص من كرامة الانسان هو حالة حرب وعنف تقوض السلام.
كل سلطة مستبدة، سياسية او اجتماعية هي عنف يصيب المجتمع الذي يعاني منها.
هذا المفهوم الحقيقي للإستقرار واللاعنف يتناقض مع حالة السلام الزائف الذي تمثله نماذج استقرار لا تعبر عن السلام ما دامت تغطي على سلطات مستبدة تصادر الحقوق وتفرض نظاما جائراً لا يصون كرامة الإنسان ويهدر حقه في المشاركة والاختيار وصنع السياسات وتغيير الإدارات السياسية بواسطة الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة.
ان السلام لا يعني الخضوع والا كان بعيدا عن الطبيعة البشرية مثل العنف. فعالم السيد والعبد عالم لا انساني وكلاهما يتم الانتقاص من انسانيته، من يستخدم العنف للإخضاع ومن يقبل الخضوع للعنف.
ان العمل من أجل حل النزاعات بالوسائل اللاعنفية وبناء السلام العالمي يتم في فضاءين؛ الأول مناهضة الحروب والعمل على ايقافها عندما تندلع نيرانها ، والعمل على منع حدوثها عندما تنذر الوقائع بقرب اندلاعها.
والفضاء الاخر والأهم هو العمل من أجل قيم وعلاقات تؤسس لاستقرار حقيقي وترسي مضامين السلم الاجتماعي داخل الدول والسلام العالمي في العلاقات الدولية بالعمل من اجل نشر وترسيخ قيم العدالة والمشاركة وحقوق الإنسان والديمقراطية، ومحاربة الفقر وتوفير فرص متكافئة للناس في بلدانهم وبناء تعاون دولي مثمر لاحتواء النزاعات والحروب ومكافحة الإرهاب والديكتاتوريات والفقر.
***
في اليمن قامت ثورة سلمية شعبية، وقبلنا بتسوية لنقل السلطة سلمياً صفق لها العالم، وتم ذلك بمسمى "المبادرة الخليجية" التي وقعت في الرياض. لكن قوى الثورة المضادة انقلبت على كل الاتفاقات وقادت انقلابا على الدولة واجتاحت المدن اليمنية وعاثت خراباً في اليمن وما تزال.
اننا في اليمن نواجه حرباً متعددة الرؤوس من اعداء يحاولون تقسيم اليمن بين نفوذ إيران والسعودية والإمارات وتصفية الدولة اليمنية عبر دعم الحروب بالوكالة، وإعاقة كل فرص عودتها. الوحشية ليست القانون الذي ينبغي ان نرضخ له. الميليشيات الطائفية الحوثية لم تقدم لشعبنا سوى الموت والدمار. الدول الطامعة في تقاسم النفوذ في اليمن، ايران والسعودية والامارات، تدير حروبها الخاصة في اليمن، لكن اهدافها ومساعيها ستسقط وتغرق في رمال اليمن. اليمن مقبرة الغزاة، والشعب اليمني نفسه طويل ولن يرضخ للاحتلال الخارجي وادواته من ميليشيات الحوثيين في صنعاء وميليشيات الانتقالي الانفصالية في عدن. سيبقى الكفاح من أجل وطن آمن يحكم بالقانون والمواطنة والديمقراطية هو هدفنا الأسمى. لقد استهدفت الثورة المضادة وحلفاءها في الخارج بلدنا ودولته ووحدته ووجوده.
ميليشيات الحوثيين المدعومة من ايران هي الحاجز الاكبر امام السلام. هذه الميليشيات لا تختلف عن حركة طالبان، والعنف والحروب جزء من عقيدتها الحربية وليس حالة مؤقتة ومشروطة بأسباب محددة قابلة للحوار حولها. أُعلنت هدنة في شهري أبريل ومايو الفائتين برعاية الأمم المتحدة، وتم فتح مطار صنعاء ودخول سفن النفط والديزل والغاز الى مدينة الحديدة ولكن الميليشيات الحوثية لا زالت الى اليوم تحاصر مدينة تعز وترفض فتح معابرها للمواطنين وتجبرهم على سلوك طرق فرعية طويلة ووعرة تمتد لساعات. هذا الحصار المستمر منذ ثمان سنوات حول حياة سكان مدينة تعز والمسافرين القادمين اليها والخارجين منها الى جحيم متواصل من العذاب والمعاناة.
ان التحالف السعودي الإماراتي عمل في سنوات الحرب على تشتيت قوى الشرعية وأنشأ ميليشيات تابعة له ابرزها ميليشيات المجلس الانتقالي الانفصالية، يتم تمويلها ودفع مرتباتها من ابو ظبي والرياض. تم توقيع اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي في الرياض عام 2018 ولكنه لم يطبق واستمرت الفوضى واللادولة في المحافطات الجنوبية بسبب رفض المجلس الانتقالي تطبيق اتفاق الرياض.
مؤخرا قامت السعودية والامارات باستبعاد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، واستبداله بمجلس انتقالي ضم القوى المتنافرة على الارض، وهو مسمى غير دستوري وجاء بمخالفة لنصوص الدستور اليمني، ومع ذلك لم يتمكن بعد من الظهور كسلطة موحدة قادرة على دمج التشكيلات العسكرية المتعددة تحت سلطة واحدة. كان هذا التشتيت لقوى الشرعية من قبل التحالف سبب رئيسي لتزايد قوة ميليشيات الحوثيين وامتداد سلطتهم على معظم محافظات شمال اليمن.
ان السلام يحتاج الى وضع حد للتدخلات الإيرانية والسعودية والاماراتية التي تستخدم أدواتها لإدامة الحرب، وأقصد تحديداً الميليشيات الحوثية وميليشيات المجلس الإنتقالي. إيران والسعودية حولت بلدنا الى ساحة لصراعاتها وأطماعها.
السلام هو عودة الدولة اليمنية وطي صفحة الميليشيات الحوثية في صنعاء وميليشيات الانتقالي في عدن، ورفع الوصاية السعودية الإماراتية عن القرار اليمني، وسواحل اليمن وجزرها وموانئها البرية والبحرية ومناطق ثرواتها النفطية.
بقاء سلطة الحوثي هو اعلان حرب مستمر ضد شعبنا، ولا يمكن ان تكون وجهاً للسلام في اليمن. هذه الميليشيات تستولي على المساعدات الدولية وتجبر المنظمات الانسانية على العمل بشروطها ووفق سياساتها المفروضة على ملايين السكان. اليمن تحتاج الى استعادة دولتها الشرعية واستكمال المرحلة الانتقالية وفق المرجعيات الثلاث المتمثلة في إتفاقية نقل السلطة "المبادرة الخليجية"، ومخرجات الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية التي أكدت احترامها لدولة الجمهورية اليمنية واكدت على وحدة اليمن وأمنه وإستقراره وسيادته. إن أي تسويات تشرعن لسلطات الميليشيات وتقسم اليمن بين نفوذ ايران والتحالف السعودي الإماراتي ستكون باباً آخر لحروب مستدامة لا بوابة للسلام والاستقرار.