كلمات
بداية من المهم أن نتذكر وأن نضع في اعتبارنا أن القتال بين الخير والشر هو حرب لا نهاية لها. وأنه على مدار التاريخ وفي كل عصر لطالما وجدت الاكاذيب والمعلومات المضللة طرقها وأساليبها الخاصة.
الجديد اليوم هو أن التكنولوجيا الحديثة والتطور في الاتصالات والإعلام يستخدمان كميادين لمثل هذه الحروب. وأن الانترنت والوسائط الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعية كان لها دور حاسم في الانتشار السريع غير المسبوق للأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة.
أعتقد أن أساس التضليل والأكاذيب ينطلق من التوجهات السياسية المعتمدة لخدمة مصالح الدول التي لا تهتم بالحقيقة وتتجاهل قيم حرية الصحافة وحقوق الإنسان. ينشرون التضليل والأكاذيب، ويخلقون الميليشيات الإلكترونية لاستخدام حملات دعائية قائمة على الافتراءات والأكاذيب والخداع من أجل إرباك الحقيقة وإرباك الرأي العام.
اتفق مع من يقول إن المعلومات المضللة هي مشكلة عالمية، ولكن الجملة ستبقى ناقصة إذا لم نكملها ونقول إن أخطر من يقف وراء التضليل ونشر المعلومات الكاذبة هي الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تعادي الحقيقة وحرية التعبير وحق الحصول على المعلومة، ومن ورائها عالم بلا ضمير صمت عن الاستبداد وتخاذل عن دعم الشعوب التواقة للحرية والديمقراطية وفي مقدمتها الشعوب العربية.
أعزائي عزيزاتي؛
مساء الجمعة الماضية كان مندوب روسيا في مجلس الأمن يعرض صوراً لبناية مستشفى ماريوبول ويجادل لنقض الرواية التي تحدثت أنها تعرضت لقصف روسي، مدعياً أنها أكاذيب وصوراً مفبركة، ويروج لادعاءات روسية عن وجود معامل لصنع الأسلحة البيولوجية في أوكرانيا بنيت بمساعدة أمريكية، في محاولة لتبرير غزو بلاده لبلد مستقل وذو سيادة وعضو في منضمة الأمم المتحدة.
قبله وقف خلال السنوات الماضية مندوب النظام الأسدي في سورياً يحاول خلط الحقيقة بالأكاذيب نافياً جرائم مروعة قصفت خلالها المدن بالبراميل المنفجرة واستخدم السلاح الكيماوي في أحدها، واجتاحت قوات نظامه بمشاركة الغزاة من ايران وروسيا والميليشيات الشيعية وحزب الله مدن سورية وهدمتها وقتلت عشرات الالاف من سكانها.
قبل عقدين وقف في نفس المكان في مجلس الأمن مندوبا أمريكا وبريطانيا للإدعاء بامتلاك دولتيهما معلومات تثبت امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل، وشنا حرب غزو العراق استنادا الى هذه المزاعم، وكما نعلم اليوم فقد تأكد عدم صحة تلك المزاعم التي اتخذت مبررا للحرب خارج إطار الشرعية الدولية.
في أوكرانيا لا مساحة للتضليل والأكاذيب الروسية، ليس لأن روسيا أقل براعة في هذا المجال وإنما لأن الموقف الدولي موحد ضد الغزو الروسي. توافق توجهات ومصالح الدول الغربية مع موقف الشعب الأوكراني في مواجهة الغزو الروسي خفض من فرص التضليل والمعلومات الكاذبة التي تستخدمها روسيا إلى درجة الصفر تقريباً. توافق المصالح الغربية مع حق الشعب الاوكراني في رفض الغزو الروسي ومقاومته، ومع ضرورة التضامن مع شعب يتعرض للغزو وتجتاح القوات الروسية مدنه وتشرد سكانها، جفف بيئة التضليل والمعلومات الكاذبة.
تستدعي الذاكرة هنا غزواً مماثلاً هو الغزو الروسي لسوريا قبل سنوات، وكذلك الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وقد مُرِرت حربا الغزو والإجتياح أمام العالم بكل جرائمها، ومررت حملات الأكاذيب والمعلومات المضللة الموازية لهما، والسبب في ذلك لا يكمن في كون تلك التضليلات كانت إحترافية وعالية الكفاءة، ولا في كون البيئة الملائمة لانتشارها كانت في مستوى أعلى، وإنما لأن مواقف الدول الغربية ذات التأثير الواسع لم تكن مساندة فعلياً لشعبين تعرضت بلديهما للغزو والتدمير ومورست ضدهما جرائم إبادة جماعية وانتهاكات لا حصر لها.
في حالات العراق وسوريا والحروب التي تعرضت لها بلدان الربيع العربي، كانت الحقائق واضحة وجلية للعيان، ولم يكن بإمكان التضليل والأكاذيب أن تلقى آذانا صاغية لولا ان المواقف السياسية ومصالح الدول الكبرى المؤثرة تواطأت مع بروباجندا التضليل والأكاذيب.
لو أن هذه الآلة العالمية من المقاطعة والعزل والعقوبات التي حركها الغرب لمواجهة العزو الروسي لأوكرانيا، قد تحركت بنسبة 20% ضد إيران وميليشياتها في سوريا، وضد الغزو الروسي لسوريا، لما رأينا اليوم روسيا وهي تغزو أوكرانيا.
لو تلقت ثورة الشعب السوري وثورات الربيع العربي الحد الأدنى من المساندة الغربية في مواجهتها لحروب الثورات المضادة وحلفاءها الإقليميين والدوليين، كان ذلك سيغير من مسار الأحداث في البلاد العربية والعالم.
كان بإمكان ذلك ان يدفع بالتحولات الديمقراطية إلى مديات غير مسبوقة. لكن المواقف المساندة للديمقراطية وحق الشعوب في اختيار حكامها وتغييرهم، تميز بين الشعوب وتفحص ثقافاتها وانتماءاتها العرقية ومواقعها الجغرافية، ونسبة تأثير حريتها وديمقراطيتها على مصالح دول الغرب ونفوذه.
في تاريخ البشرية والدول والصراعات والحروب كانت حرب تزييف الحقائق والتضليل والأكاذيب دائماً موجودة، والجديد اليوم هو استخدام التكنولوجيا الحديثة والتطور في وسائل الاتصال والإعلام، ساحات لحروب الأكاذيب والتضليل. الجديد هو سرعة انتشار الخبر الكاذب والمعلومة المضللة في عالم الصورة وعصر المعلومات والإنترنت ومنصات التواصل الإجتماعي.
وكما قلت سابقا إن جذر المعلومات المضللة والأكاذيب هو التوجهات السياسية التي تنتجها لخدمة مصالح دول لا تأبه بالحقيقة وتستخف بقيم حرية الصحافة وحقوق الإنسان. المواقف السياسية للانظمة والدول توفر في احيان كثيرة بيئة ملائمة لانتشار المعلومات المضللة والأكاذيب واستخدام الميليشات الإلكترونية في حملات دعائية تستخدم الفبركات والكذب والتدليس بهدف التشويش على الحقيقة وإرباك الرأي العام.
لن نحصل على صورة كاملة عن أسباب انتشار المعلومات المضللة لو اكتفينا بالنظر لوسائل ترويجها في الصحافة والإنترنت ومنصات التواصل الإجتماعي. الإعلام بكل فروعه بما في ذلك الاعلام الإلكتروني ومنصات التواصل، ليس إلا ساحة من ساحات حرب تغذيها أنظمة مارقة وميليشيات مسلحة، وللأسف تشارك فيها دول كبرى عندما تتطلب مصالحها تعميم توجه واحد يتوافق مع روايتها للأحداث والقضايا المطروحة أمام الرأي العام.
الأنظمة الديكتاتورية والأيديولوجية المتورطة في حروب ضد مجتمعاتها وضد جيرانها، هي أكثر الفاعلين رعاية لبيئة الأكاذيب ونشر المعلومات المضللة.
من تجربتنا في ثورات الربيع العربي لدينا الكثير الذي يمكن أن يقال عن حرب التضليل ونشر المعلومات الكاذبة، وقد كانت حرب التضليل واحدة من صور حرب شاملة طالت كل ما له علاقة ببلدان الربيع العربي؛ ثوراتها، مجتمعاتها، دولها، ووجودها.
إن رهن الموقف من سيادة الدول والديمقراطية وحقوق الإنسان والحروب الفاشية ضد الشعوب بميزان مصالح الدول الغربية ونفوذها، وبمعايير الموقع الجيوسياسي لساحة الحرب، والعرق والدين، كل ذلك التمييز الذي مارسه الغرب الديمقراطي ساهم في تعميم الفاشية، واتساع مساحة الارتداد عن منظومة قيم الديمقراطية والدولة الحديثة، وانتشار الحروب والاضطرابات عبر العالم.
لقد تواطأ العالم الديمقراطي مع ماكينات انتاج الاكاذيب والمعلومات المضللة التي وصمت شعوبنا بتهمة "الإرهاب" لتزييف حروب الثورات المضادة ضد المجتمعات التي ثارت من اجل الحرية والديمقراطية والعدالة في عام انطلاق ثورات الربيع العربي 2011.
لقد عبرت شعوبنا عن مواقف شجاعة تجاه سياسات الاستبداد والقمع، وتوجت نضالاتها في هذا المضمار بثورات وانتفاضات شهد لها العالم بالشجاعة والنبل، فمنذ 2011 وهناك معركة واضحة المعالم بين معسكر الديمقراطية وحقوق الانسان من جهة، وبين معسكر الثورة المضادة الذي يحارب في البلدان العربية والذي تقوده دول مستبدة في منطقتنا وهي السعودية والامارات وايران، هم وراء الآلة الإعلامية المتهمة لشعوبهم التواقه للحرية والديمقراطية بالإرهاب؛ لأنهم يريدونهم رعايا لا مواطنين يتمتعون بكل حقوق المواطنة.
العالم اليوم أيضاً لديه تجربة كيف تم استخدام المعلومات المضللة للتأثير في مواجهتنا لوباء كوفيد 19 وللتأثير على الحملات الانتخابية.
يمكن رؤية المعلومات المضللة في كل مكان من حولنا، بدءًا من المجالات السياسية والاقتصادية والصحية إلى جميع جوانب حياتنا الحديثة. أمام هذا، ما نحتاجه اليوم هو:
- جهد جماعي لتحديث أدواتنا وأساليبنا واستراتيجياتنا لحماية حرية التعبير وفي نفس الوقت لمواجهة المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة.
- جهود الأفراد أيضا مهمد لحماية أنفسهم من الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة من خلال متابعة الاخبار وأخذ المعلومات من مصادر متنوعة والاستماع لوجهات النظر المختلفة. من المهم جدا أن تكون متشككًا بشأن مصادر الأخبار وان تبحث دوما عن الحقيقة.
- شركات التكنولوجيا كذلك يتعين عليها البحث عن الأخبار المزيفة والتعرف عليها، ويجب عليها تعزيز المساءلة عبر الإنترنت من خلال سياسات أقوى بشأن الأسماء الحقيقية واتخاذ إجراءات صارمة ضد الحسابات المزيفة.
أخيرًا وليس آخرًا، إن أهم جهد لمكافحة التضليل والمعلومات المزيفة هو مساعدة الشعوب في معركتها من أجل الحرية ومعركتها ضد الطغاة؛ لأن الاستبداد هو العدو الأول والأخير للحقيقة.