كلمات
كلمة توكل كرمان في مهرجان نوبل لآسيا
الأصدقاء والصديقات الأعزاء جميعا.. قبل الميلاد ، أو لنقل قبل التاريخ المعروف للعالم ، كانت اليمن ، وكانت الملكة بلقيس ، أيقونة التاريخ القديم ، ورمز التاريخ اليمني المجيد ، كما هي رمز لتاريخ المرأة ودورها الريادي.
أنا من اليمن التي قدمت هذه الملكة العظيمة. اليمن التي قدمت الملكة أروى قبل ألف عام. هذه العودة للتاربخ ليست إضاءة هامشية، للفخر بتاريخ بلدي ، بقدر ما هي إشارة إلى أن دور المرأة لا تنقصه الشواهد التاريخية ، وليس سابقة تحسب للعصر الحديث وتطوره القيمي.
ان المرأة والرجل جناحي النوع الإنساني ، مثلما هما جناحي المجتمع. وان اقصاء المرأة ، أو الانتقاص من حقوقها ، لهو انتقاص من المجتمع. مجتمع مريض هو ذاك الذي يقوم على الاستعلاء على النساء ، ووضعهن في مرتبة أدنى من الرجال.
والحقيقة هي أن التسلط عندما يحل في مجتمع ، فهو لا يفرق بين الرجال والنساء ، وان كان هناك من تفاوت هنا فهو التفاوت في " مراتب العبودية والاضطهاد " ، لا التفاوت في درجات الحرية.
من هنا احب ان أؤكد على فكرة اساسية ، لطالما طرقتها في كثير من محاضراتي وكلماتي. ما أعنيه هنا هو أن الكفاح من أجل حقوق المرأة ومشاركتها لا يتحقق بطريقة مثلى إلا عندما يكون جزءا من كفاح المجتمع للتحرر من الإستبداد والظلم.
ان تجارب المجتمعات تقول ذلك. ان المرأة أخذت مكانها كقائدة عندما وضعت نفسها في قلب قضايا مجتمعها. ان المرأة أخذت دورها الريادي عندما أصبحت جزءا من الحركات السياسية والمجتمعية والثقافية ، التي تتبنى رؤية شاملة للتغيير والنهوض بالمجتمع ككل ، وضمن ذلك وضع المرأة وحقوقها.
ان الإستبداد ، انظمة التمييز واللامساواة ، عندما تتحكم بالمجتمع ، فإن اثارها تطال الجميع ، الرجال والنساء ولا تستثني أحدا. وعندما يتحرر المجتمع من الاستبداد والقمع والنظام الشمولي ، فإن جميع أفراده تصلهم نسمات الحرية.
عندما ننظر الى تاريخ المجتمعات نجد ان النساء اللاتي برزت كقائدات لمجتمعاتهن كن نتاج لحركات سياسية واجتماعية شاركت فيها النساء بفاعلية. لقد اتين تحت رايات قضايا عامة تهم كل فئات المجتمع ، وبضمنها قضية المرأة وحقوقها ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء.
ان سياسة التمييز الايجابي لصالح النساء ، التي يتم تشجيعها عالميا ، بهدف اتاحة الفرصة امام المرأة للمشاركة في المجال العام ، هي اجراءات مهمة ، ولكنها تبقى محدودة ، ولا تؤدي الى تغيير جوهري في اوضاع المرأة ونسبة مشاركتها في المجال العام.
التغيير يحدث بصعود حركات سياسية واجتماعية تقيم نظاما جديدا على انقاض النظام القديم. التغيير يحدث بكفاح متلاحم لكل فئات المجتمع لارساء سلطة القانون والدولة التي تمثل كل مواطنيها وتعمل لتحقيق طموحاتهم وامالهم.
عندما توضع قضايا المساواة وحقوق المرأة ضمن أولويات الحراك السياسي والمجتمعي ، تكون فرص التغيير ومشاركة المرأة كبيرة وواسعة.
ان التمييز الايجابي في دول تحكمها انظمة مستبدة قد يحدث تغييرات شكلية ، ولكنه يبقي على حالة التمييز ضد النساء. لقد حدث ان أبرزت نماذج نسوية عملت في خدمة الاستبداد ، وضمن اهدافه التي تبقي على سياسات التمييز ضد المرأة ، ولا تقترب من البنى العميقة في التعليم وقوانين الأسرة والانظمة الاجتماعية التمييزية.
من هذا المدخل لدور المرأة سأعود الى تجربتنا الأهم في البلدان العربية.
كان للنساء الدور المؤثر في ثورات الربيع العربي والتغيير الذي بشرت به ، وهو أرفع مراتب النضال المجتمعي الذي اجتذب اكبر مشاركة للمرأة في مجتمعات لم يتوقع العالم أن يكون للنساء فيها هذه الارادة الفعالة لمشاركة مجتمعها في انتفاضات جماهيرية ترفع شعارات الحرية والمواطنة والمساواة والديمقراطية وحقوق الانسان.
هذا التاريخ الذي سجلته النساء في بلدي وساحات الربيع العربي في الوطن العربي جعل من المرأة مشاركا فاعلا في قضايا مجتمعها ، وفرضت حضورها في الساحات والميادين وواجهت مع عشرات الالاف من الثوار الرصاص والقمع والاعتقالات والتنكيل الذي استخدمته الانظمة المستبدة على أوسع نطاق .
لقد عرف العالم في السنوات العشر الماضية نوعا بشعا من الحروب ابتكرتها الديكتاتوريات المنتقمة من مجتمعاتها المنتفضة ضدها.
حروب في سبيل السلطة المطلقة لم تتورع عن تدمير بلداننا وتحويلها الى ركام فوق النساء والرجال والأطفال
لقد حاولوا سد أفقنا بالدم والموت ولكن ارادة الحرية اقوى من الموت والدمار والمستقبل لنا لا للطغاة والقتلة.
أنتمي لليمن ، البلد الذي شهد ثورة شعبية في 2011 من أجل التغيير وإسقاط النظام المستبد ، والذي يعيش منذ سبع سنوات حربا دامية لا أراها إلا نتيجة للثورة المضادة التي واجهت الربيع العربي كله وليس ثورة اليمن وحدها.
لهذا لا أستطيع أن أتحدث أمامكم عن الدور القيادي للمرأة من دون أن أتطرق لدور المرأة اليمنية والعربية في النضال من أجل التغيير ونيل الحقوق ، وهي التجربة التي مثلت فرصة تاريخية للمرأة العربية لممارسة دور فاعل من أجل نيل حقوقها ومن أجل أن يكون لها صوت وحضور ووجود يعلن عن تطلعاتها ، ومن خلاله تنطلق نماذج نسوية مكافحة من أوساطها ليكون لها دور عالمي في قضايا السلام وحقوق المرأة ومناهضة العنف والحروب.
كان التغيير السلمي منهج ثورة 11 فبراير في اليمن وثورات الربيع العربي عموما ، وكانت سلمية الثورة بابا وآسعا اجتذب كتلة سكانية نسوية واسعة من كافة ارجاء اليمن للإسهام في صناعة التغيير وللمشاركة في اهم حدث في تاريخ مجتمعها
وبينما كانت المرأة في الساحات والمظاهرات تعلن ميلاد تاريخ جديد في نضال المرأة اليمنية من اجل نيل حقوقها ومن أجل تحرر المجتمع كله من الاستبداد كان المستبدون والطغاة يحتشدون مع حلفاءهم الإقليميين والعالميين في حرب ظالمة غاشمة ضد ثورتنا السلمية.
لم تعرف بلداننا العربية حضورا فاعلا ومؤثرا للمرأة كما عرفته في ربيع الثورات السلمي في 2011. كان خيار السلمية في التغيير مشجعا لمشاركة المرأة بكثافة في مهرجانات حرية زاهية شملت عواصم الربيع العربي من المحيط إلى الخليج.
هذا المشهد الحضاري سيبقى خالدا في ذاكرة أمتنا ومحفزا في المستقبل ، للمرأة وللمنظمات النسوية والمدنية التي عاشت تجربة ثرية في وسط الجماهير الشعبية التي تدفقت على الساحات والميادين وهتفت بروح واحدة من أجل التغيير ومن أجل أن يعم السلام والحرية والديمقراطية.
لم أجد تجربة أفضل من هذه للحديث عن المرأة ودورها التغيير.
هذه الثورة الشعبية التي عشناها في اليمن نساءا ورجالا في مواجهة من يصادر حريتنا جميعا المرأة والرجل ويمارس ضدنا التمييز والقهر والاقصاء والمصادرة للحقوق والحريات
ان تجربتنا تلهمنا القول أن لا تحرر للمرأة من دون تحرر المجتمع بكامله. هذا ما تثبته الأحداث والتاريخ بكل ما يحفل به من ثورات وتغيرات ومحطات. من هنا يمثل دور المرأة في التغيير طليعة جهودها للانعتاق من الضيم والإلغاء والقهر والتمييز الذي تعاني منه.
إرتفاع صوت المرأة في الداخل هو بوابة وصولها إلى العالم لتشارك مع الحركة النسوية العالمية في كفاحها من أجل حقوق المرأة ومن أجل تعزيز السلام في العالم ومناهضة العنف والحروب والظلم.
كانت الآمال كبيرة بأحداث تحول جذري في قضايا المرأة ودورها ومشاركتها ونضالها الطويل من أجل دولة مواطنة يتساوى تحت قانونها ودستورها الجميع رجالا ونساءا ، مواطنة لا تمييز فيها بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو العرق والمذهب والدين والمستوى الاجتماعي والنفوذ. غير أن الحرب أعاقت كل هذه الطموحات مثلما ألقت بظلالها القاتمة على المجتمع كله ، وأجلت بذلك هذه التحولات التي لاحت في متناولنا لاحداث فارق في وضع المرأة ، لكنها لن تضع حدا لها.
ونضالنا ضد الحرب والمتسببين فيها هو نضال من أجل هذه القيم التي نكافح لترسيخها في مجتمعاتنا ودولنا.
التغيير الذي بدأناه لن يتوقف. الحرب كانت وماتزال مشروع قوى الثورة المضادة والاستبداد والظلم والتسلط على المجتمع برجاله ونساءه ، وهي قوى من مصلحتها ابقاء وضع المرأة اكثر تخلُّفا ومنع اي تحولات تحقق للمرأة حضورا اكبر في سعيها وكفاحها من أجل حقوق المواطنة الكاملة والحرية والكرامة اللتان تليقان بها كبشر لها كامل الحقوق.
ان كفاحنا من أجل حقوق المرأة ومشاركتها في المجال العام لمجتمعها ، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة ، سيكون مثمرا عندما يوضع ضمن كفاح المجتمع كله للتحرر من الظلم والاستبداد والانظمة الشمولية.
ان النكسات التي يشهدها العالم اليوم ، تبرز بوضوح في مثالين ، في اليمن وأفغانستان ، حيث تسود اليوم حركتين من القرون الوسطى ، حركة طالبان في افغانستان ، والحوثيين في اليمن.
هذه الميليشات تتبنى مواقف معادية للنساء ، وتفرض عليهن قيودا اشبه بالعبودية. هاتان الحركتان لا اكتفيا بفرض حالة من العبودية على النساء ، بل وتستخدم بعضها في الاستبداد، من خلال نساء ينتمين الى الحركتين. لقد انشأ الحوثيون ميليشيات نسائية تسمى " الزينبيات " لممارسة انواع خاصة من القمع ضد النساء. ان هذا النوع من الجماعات الدينية الطائفية، يقمع الجميع، الرجال والنساء، وحتى اولئك النسوة اللاتي يمارسن ادوار ضمن نظام التمييز الديني والطائفي هن ضحايا مثل اغلبية النساء اللاتي تفرض عليهن قيود العبودية، ولا يتمتعن بأي حقوق.
هذا المثال أردت به ان اوضح ان حكم الميليشات وكذلك الانظمة الشمولية ، يحدث ان يستغل وقوع المجتمع تحت قبضته القامعة ، ويستخدم بعض النساء في الته القمعية ، امعانا في اذلال المرأة والمجتمع.
لذلك ، فإن تشجيع الحراك السياسي والمجتمعي على اجتذاب اعداد اوسع من النساء للمشاركة في تغيير واقع الظلم والتسلط والاستعباد ، سيضع قضية مشاركة المرأة والمساواة بين الرجال والنساء في اعلى سلم اولويات المجتمع والدولة المنشودة ، دولة القانون والمساواة والعدالة ، التي تضمن صون كرامة جميع افراد المجتمع ، نساءه ورجاله.