كلمات
كلمة توكل كرمان في الاحتفالية الخاصة بالذكرى العاشرة لتسلمها جائزة نوبل للسلام - اسطنبول
ألقت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان كلمة في احتفالية خاصة أقيمت في مدينة اسطنبول التركية بمناسبة مرور عشر سنوات على حصولها على الجائزة، فيما يلي نصها:
في البَدءِ أحييكم جميعا أصدقائي وصديقاتي الحاضرين في هذه القاعةِ فردا فردا. وأشكرُ كلَ من ساهم في الإعدادِ والتحضيرِ لهذه الفعاليةِ الاحتفالية.
أشكرُ مديرةَ مؤسسة توكل كرمان السيدة مسك الجنيد وجميعَ طاقمِ المؤسسة، شكرا لكم جميعا من أعماقِ قلبي.
كما أشكرُ الفريقَ التقنيَ الداعمَ في بلقيس ميديا.
أيها الأحبة:
قبل عشرِ سنوات، وبالتحديد في السابعِ من شهر أكتوبر 2011، وبينما كنت في خيمتي بساحةِ التغيير بجامعة صنعاء، رأيت شبابَ الثورةِ يرقصون حول خيمتي، يغنون وينشدون:
يا سلام يا سلام.. حزنا نوبل للسلام
يا سلام يا سلام.. توكل رمز السلام
لم أكن على علمٍ حينَها أنني مرشحةٌ لجائزةِ نوبل للسلام.. كنت ولا زلت مسكونةً بكلِ تفاصيلِ الثورةِ ومناهضةِ الاستبداد.
لقد كان يوما عظيما، يوما من أيام الثورةِ الشبابيةِ الشعبية السلمية، يوما اعترف فيه العالمُ بعظمةِ ثوراتِ الربيع العربي وبسلميةِ ثوراتِه وفي مقدمتِها الثورةُ الشبابيةُ الشعبيةُ السلميةُ اليمنية، ثورةُ الحادي عشر من فبراير المجيدة، وأننا في الجانبِ الصحيحِ من التاريخ، هذا ما قاله الضميرُ الإنساني في لحظةِ صفاءٍ نادرة..
منذ اللحظةِ الأولى، اعتبرت الجائزةَ جائزةَ الشبابِ اليمني، والشبابِ العربي، والمرأةِ اليمنية والمرأةِ العربية، ولم أكن مبالغةً في ذلك. وانطلاقا من هذه القناعةِ خصصت القيمةَ الماليةَ للجائزةِ بالكاملِ لصندوقِ رعايةِ أسرِ شهداءِ وجرحى ثورةِ فبراير والحَراكِ الجنوبيِ السلمي.
لقد كانت جائزةُ نوبل التي مُنحت لي في عام 2011 حقا لكلِ حرٍ وثائرٍ حقيقي، لقد رأيتها جائزةً لكل إنسانٍ يناهضُ الاستبدادَ في هذا العالم.
إنني أكره الاستبداد، وأشعر بالفخر أن المستبدين قد ناصبوني العداء.
لقد مثل هذا الحدثُ التاريخي بفوزِ أولِ امرأةٍ عربيةٍ بجائزةِ نوبل للسلام، تقديرا للمرأةِ العربيةِ وتكريما لها واعترافا بدورِها في ثوراتِ الربيع العربي.
لقد أخرج الربيعُ العربي قضيةَ المرأةِ وحقوقَها من الإطار الخاصِ إلى الإطارِ العام الملتحمِ بقضايا المجتمع.
لم تعدِ المرأةُ العربيةُ قضيةً منفصلةً عن قضيةِ مجتمعِها وحقِه في الكرامةِ والحريةِ والعدالةِ والتغييرِ ودولةِ القانون.
لقد أطلقت ثوراتُ التغييرِ اليمنيةُ والعربيةُ قضيةَ المرأةِ من الفعالياتِ الهامشيةِ المعزولةِ في الندواتِ الى فضاءِ المجتمعِ الواسعِ وساحاتِه، وخاطبت كلَ النساءِ اليمنياتِ والعربياتِ اللواتي شاركن في الصفوفِ الأولى للثوراتِ في فعلٍ جسورٍ يتحدى الموتَ والرصاصَ، وهتفن لتحررِ المجتمعِ والمطالبةِ بالتغييرِ ودولةِ المساواةِ والقانون.
أيها الأعزاء:
بعد عشرِ سنواتٍ من ثوراتِ الربيع ومن فوزي بجائزةِ نوبل، بقيت بعضُ التحدياتِ كما هي وتغيرت بعضُها، ولكن توكل كرمان هي توكل كرمان؛ مع شعبِها، ومع الحريةِ والكرامةِ والعدالة والمساواةِ والديمقراطيةِ والحقوقِ والحرياتِ والدولةِ الحديثة. هذه أهدافُ اليمنيين في نضالاتِهم الوطنيةِ خلالَ القرنِ الماضي.
البعضُ اعتقد أن حصولي على نوبل سيجعلني أكثرَ مهادنةً للأنظمةِ المستبدة، بما يتماشى مع موضةِ السلامِ التي يتمُ الترويجُ لها من الدوائرِ المرتبطةِ بتلك الأنظمة.
بالنسبة لي كانت جائزةُ نوبل حافزا يعززُ إيماني بمبادئي وقناعاتي المنحازةِ للإنسانيةِ والعدالةِ والحريةِ وحقوق الإنسان، وتعزيزا لقيمي وقضيتي وما أؤمن به ونذرت حياتي من أجلِه.
لقد قررت منذ اليومِ الأولِ للثورةِ وقبل نوبل وبعد نوبل أن أكونَ وفيةً لتضحياتِ شهداءِ الربيع العربي، فلم أساوم يوما على قيم الربيعِ العربي ولم أكن لأقايضَ مبادئَ الحريةِ والديمقراطيةِ وحقوقِ الإنسان بأيِ جائزةٍ مهما علا شأنُها. على العكس من ذلك، قررت أن أكونَ وفيةً لقيمِ وأهدافِ الربيعِ العربي، وقد واجهت في سبيلِ ذلك حملاتٍ دعائيةً متنوعةً استهدفت اغتيالي معنويا، لكنني كنت راضيةً بالثمن الذي أدفعه وسوف أدفعه في سبيل عالمٍ عربيٍ حر.
لست نادمةً، فالأحرارُ يزيدون كلما أُلحق الأذى بهم، والطغاةُ وأتباعُهم ليس لديهم فضيلةٌ أو قرار.
الأصدقاء الأحباب:
منذ نحوِ عشرِ سنواتٍ ونحن نعيش ارتداداتِ ثوراتِ الربيعِ العربي، ففي حين خرجت الملايينُ تطالبُ بإقامةِ دولٍ ديمقراطيةٍ بحيث لا يكونُ الحكمُ محتكَرا من قبل فردٍ أو جماعةٍ أو طائفة، تم مقابلةُ ذلك بحربٍ شعواءَ من قبل عواصمِ الربيعِ العربي التي سخرت جميعَ إمكاناتِها السياسيةِ والماليةِ لوأدِ الربيع، وما مشاهدُ الدمارِ والفوضى هنا وهناك إلا نتاجُ هذه الحربِ الظالمةِ على خِياراتِ الشعوبِ وتطلعاتِها في العيشِ بحريةٍ وكرامة.
خلالَ السنواتِ العشرِ الماضية، امتزجت الآمالُ بالآلام، عشنا لحظاتٍ فيها الكثيرُ من الأمل، كما عشنا الكثيرَ من الحزن، فالحربُ على أشدِها بين دعاةِ الحريةِ ودعاةِ العبودية، بين الدولةِ الديمقراطيةِ التي لا تفرقُ بين أفرادِها وبين دولةِ المحسوبيات.
في خضم هذه الحرب، تحاولُ عواصمُ الثوراتِ المضادةِ وشيعتُهم المحليون تزويرَ الوقائعِ بقصدِ تشويهِ ثوراتِ الربيعِ العربي، مرة يقولون بأنه ربيعٌ فارسي، ومرةً يقولون ربيعٌ عبري، ويُدار من غرفةٍ في تل أبيب، ألم تجاهرْ صحافتُهم وكتبتُهم بهذا وذاك؟
اليوم باتت الأمورُ واضحةً وضوحَ الشمس.
لقد ولد الربيعُ العربي من رحمِ المعاناة، فالفسادُ السياسي والديكتاتوريات وانتهاكُ الحرياتِ وحقوقِ الإنسان أسبابٌ كافيةٌ لاندلاعِ ألفِ ثورة. لذلك كلُ دعاوى التضليلِ بشأنِ الربيعِ لا تقفُ على أرضٍ صلبة.
نحن مع دولةٍ ديمقراطية، لنسألَ هل هم معها. نحن ضد الاعتقالِ السياسي وضد الإعداماتِ السياسية، هل هم ضدها. نحن ضد احتكارِ السلطةِ في عائلةٍ أو منطقةٍ أو بين العسكر، فهل هم ضد هذا الاحتكارِ البائسِ أم أنهم جزءٌ من تكريسِه في الواقعِ العربي؟
صدقوني لم يعدْ في جعبتِهم الكثير، فقد سقطوا أخلاقيا وأظهروا قدرا كبيرا من العجرفةِ والإجرام، وباتوا مكشوفين أمام شعوبِهم وأمام العالم. والأهم أنهم أصبحوا ضعفاءَ يتوسلون حمايةَ هذه الدولةِ أو تلك.
حتى ورقةُ الإرهاب التي يحلو لهم استخدامُها، لم تعدْ تنطلي على أحد.
الإرهابي هو من يقتلُ من أجل السلطة، من يقتلُ خارجَ القانون، من يقتلُ لتحقيقِ مصالحِه الشخصية، والإرهابي من يستخدمُ الدينَ لترهيبِ الناسِ واستهدافِ المعارضين.
إن من حق العربِ أن تكونَ لهم دولٌ ديمقراطية تحكمُ بالقانونِ وتتأسسُ بناء على اختياراتِ الناس وتفضيلاتِهم. هذا ليس ترفا، وتجاوزُه لن يؤديَ لبناءِ دولٍ مستقرة. إن الأنظمةَ الدكتاتوريةِ وأنظمة القمعِ هي أنظمةٌ مأزومةٌ، ولا مستقبل لها.
حقُنا في الحياةِ والكرامةِ والمواطنةِ والعدالةِ حقٌ أصيلٌ وليس اعتداءً على أحد، ولا خطرا ينبغي على العالمِ تجنبُه والوقوفُ في وجهِه. ما يشكلُ خطرا على العالم هو الديكتاتورياتُ والاستبدادُ والقمع.
نعم عشرُ سنواتٍ من ثوراتِ الربيعِ العربي، ومواجهةِ إرثٍ سُلطويٍ جاثمٍ على منطقِتنا منذ مئاتِ السنين. لقد بات بمقدورِنا أن نفاخرَ أننا من أشعل هذه الشرارة، صحيحٌ أن هذه الجولةَ تميلُ لمعسكرِ الثوراتِ المضادة، لكن من قال بأن المعركةَ قد انتهت؟
لا تزال المعركةُ مستمرةً، وأنا على ثقةٍ بأن العاقبةَ للشعوبِ العربية.
الأصدقاء الأحباب:
اليوم تعيشُ اليمنُ أسوأَ مراحلِها التاريخيةِ نتيجة الانقلابِ على مخرجاتِ مؤتمرِ الحوارِ الوطني ومحاولةِ السيطرةِ على الدولةِ وهو الأمر الذي لم يكن أحدٌ من اليمنيين ليسمحَ بحدوثِه. ما يزيدُ من عمقِ المأساةِ اليمنية هو هذا الانكشافُ السياسيُ غيرُ المحدود، فعلى مدار التاريخِ كان لدينا طامعون وانتهازيون ومرتهنون لأجندةٍ خارجية، لكن ما يوجدُ اليوم شيءٌ فظيعٌ للغاية، فقد تخلت السلطةُ الشرعيةُ عن وظائفِها للمليشياتِ المسلحةِ والدولِ الإقليمية.
الأمر لا يبدو أن له علاقةً بالتخاذلِ الذي يتميزُ به الساسةُ الضعفاء، كما أن الأمر على ما يبدو ليس له علاقةٌ بقلةِ الكفاءة، أو قلةِ الضمير حتى، يبدو أن هناك من باع اليمنَ بثمنٍ بخس. لكن هيهات، أن يتمَ لهم ذلك. هذا البلدُ هو بلدُ المفاجآتِ بامتياز، ولطالما اعتقد الطغاةُ والخونةُ على حد سواء، أن اليمنَ سوف تستكين، لكن التاريخَ يقول لنا إن اليمنَ منذ ألقى الله كلمتَه فوق هذه الأرض ما استكانت ولا رضيت بالهوان، وإن غدا لناظرِه قريب.
بعبارات مختصرة، أجدد دعوتي لوقفِ الحرب، واستئنافِ العمليةِ السياسيةِ من حيث توقفت، وأن يتم حلُ المليشيات، وأن تكونَ الدولةُ هي الجهةَ الوحيدةَ التي تحتكرُ السلاح، بالتزامن مع إطلاقِ مشروعٍ كبيرٍ لإعادةِ الإعمارِ في اليمن، وتفعيلِ مسارٍ واضحٍ للعدالةِ الانتقاليةِ والمصالحةِ الوطنية. هذه الإجراءاتُ ستكفلُ الحفاظَ على الكِيانِ اليمني وتمهدُ الطريقَ لتغييرٍ في هرم السلطة، واستعادةِ القرارِ الوطني المسلوبِ من الرياض وأبو ظبي وطهران. أدعو الجميعَ إلى الاصطفافِ خلف مصالحِ اليمن، نعم خلف مصالحِ اليمن.
إن استهدافَ مأرب وشبوة من قبل مليشياتِ الحوثي لن يقودَ لسلامٍ كما يتمُ الترويجُ له هنا وهناك، بل سوف يطيلُ من عمقِ المأساة، ولن يسفرَ عن شيء.
استهدافُ المدنيين على أساسٍ مناطقيٍ مقيتٍ في عدن لن يحققَ أيَ نجاحٍ للطرفِ الذي يقومُ بهذه الانتهاكات.
لقد أخذت منا الحربُ أشياءَ كثيرة، فقدنا أعزاءً، وفقدنا قرارَنا الوطني، وآن لنا أن نعيدَ لليمن قرارَها الوطني وسلامَها الاجتماعي وحياتَها السياسية. اليمنُ بلدُنا نحن، وليس بلدَ السعودي أو الإماراتي أو الإيراني، علينا تذكرُ ذلك جيدا.
الأخوة والأخوات:
ليكونَ واضحا، إننا مع السلامِ وضد الحرب، السلامِ الحقيقيِ والمستدامِ وليس الاستسلام للظلمِ والقهرِ وسلطةِ الأمرِ الواقع.
السلامُ كما يراهُ المناضلون من أجل الحريةِ والعدالةِ هو الاستقرارُ القائمُ على العدالةِ والمساواةِ والمواطنةِ ودولةِ القانون، وليس السلامُ الذي يطلبه المستبدون، والذي يعني رضوخَ المجتمعِ لجبروتِهم وتسليمِه بظلمِهم كقدرٍ لا فكاكَ منه، ولا نجاةَ منه إلا بالاستسلام.
السلامُ الذي يتأسسُ على خضوعِ المقهورين لقاهريهم ليس سلاماً، وإنما حربٌ يوميةٌ لا تخمدُ أوارُها، تسحقُ آدميةَ البشرِ كلَ يومٍ وكلَ ساعةٍ وكلَ ثانيةٍ يتنفس فيها المظلومون هواءً ملوثا بالعبوديةِ والخضوعِ للقوةِ الغاشمة.
والسلامُ كما نراه نحن الذين ننتمي لشعوبِنا ولآدميةِ البشرِ وحقِ كلِ إنسانٍ في الكرامةِ والحياة، والذي في ظلِه يمكنُ للناسِ التمتعُ بحقوقِهم وحرياتِهم ويكفلُ لهم صونَ كرامتِهم من خلالِ دولةِ قانونٍ تمثلُهم، وليس دولةَ عصاباتٍ منفلتةٍ من أيِ مسؤوليات.
أخيرا أيها الأحبة:
كثيرون في العالمِ اليوم يعتبرون الفوزَ بجائزة نوبل غايةَ طموحاتِهم، والنجاحَ الأقصى في حياتِهم.
مفهومي للنجاح هو قدرتي على المضيِ في الحياةِ بالطريقةِ التي تتوافقُ مع المبادئِ والغاياتِ الأخلاقيةِ والوطنيةِ التي أؤمنُ بها وأنطلقُ منها.
مفهومي للنجاح هو أن أبقى على العهدِ والوعد، وألا أخذلَ الثورةَ الشبابيةَ الشعبيةَ السلمية، ولا ثوراتِ الربيعِ العربي.
باقيةٌ على العهدِ والوعد، وإني على ثقةٍ بأن الفصلَ الأخيرَ ستكتبُه الشعوبُ وليس المستبدون أو الطائفيون.