كلمات
كلمة توكل كرمان في جامعة بنسلفانيا عن التغيير الاجتماعي في الشرق الأوسط
ألقت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان كلمة في جامعة بنسلفانيا عن التغيير الاجتماعي في الشرق الاوسط فيما يلي نصها:
الأعزاء والعزيزات:
"التغيير" هي كلمة السر في المنطقة العربية والشرق الأوسط. بقدر ما لخصت هذه الكلمة احداث ثورات الربيع العربي، فهي عبرت عن حاجة ملحة وضرورية لمجتمعاتنا بعد عقود من الاستبداد والفشل وتراكم الخيبات والاخفاقات في التنمية والاقتصاد والسياسة والتعليم ومجمل الحياة في بلداننا.
كنّا متحفزين ومهيئين للخروج من استبداد مزمن أعاق دولة القانون والتنمية والتعليم والحياة بكلها. بدون كسر حلقة احتكار السياسة والدولة بيد النخب المستبدة والطائفية ، ستبقى قضية التغيير تراوح في مكانها.
لم يتحقق شيء بعد اربعين عاما من الاستبداد. فشلنا في التنمية والاقتصاد. أوضاع المرأة وحقوق الانسان أسوأ مما كانت عليه في بداية استقلال بلداننا من الاستعمار الخارجي.
لطالما تحدث الكثيرين وخاضوا جدالات واسعة تقول بان التغيير التدريجي هو الأفضل.
تجاربنا تفصح عن حقائق تكذب هذه الأمنيات. ان احتكار الدولة وتسخيرها لإرادة المستبد أكان فردا، عائلة، نخبة حزبية، طائفة، يجعل من أحاديث التغيير التدريجي أوهاما كاذبة، تجمل الاستبداد ومصادرة الحقوق والحريات وارادة المجتمع.
نتذكر اليوم كيف تحولت برامج الاصلاحات الاقتصادية في التسعينيات من القرن الماضي الى برامج لنشر الفساد وتخلي الدولة عن واجباتها. كذلك ما كان يعرف بالديمقراطيات الناشئة، لم تكن سوى تجميل لانظمة مستبدة اتخذت منها غطاءا لنيل الدعم الدولي ، فيما استمرت في مصادرة الدولة والسلطة والثروة واحتكارها في نخب فاسدة في بعض الدول، وجماعات طائفية تحتكر السلطة في البعض الاخر.
لقد تراكمت تبعات الاستبداد ونتائجه وانفجرت على شكل جماعات ارهابية وفشل اقتصادي وتنموي وانتشار الفقر والبطالة، واخفاق طال كل عناوين الحياة في البلدان العربية.
ان التغيير الاجتماعي متعذر مع بقاء استبداد سياسي يرى في بقاء التخلف ضمانة لبقاءه.
لا نأتي بجديد عندما نشير الى أن انتشار الفكر الديني المتطرف والجماعات المتطرفة كان مشروعا مدعوما من قبل انظمة الحكم المستبدة في المنطقة العربية، وبتعاون من قبل دول كبرى استخدمت ذلك التكتيك القاتل في صراعها الجيوسياسي خارج اراضيها لخدمة مصالحها.
منذ منتصف القرن الماضي وفتاوى دينية تنتقص من المرأة وحقوقها تصدر من انظمة ملكية ومستبدة مدعومة من العرب، وحظيت بحمايته ورعايته.
ان البنى العميقة للاستبداد والعداء للتغيير، ومصادرة الحقوق والحريات، قد تراكمت خلال سنوات طويلة في الاربعين عاما السابقة لثورات التغيير في 2011.
استخدمت الانظمة موارد المجتمع وثرواته لبناء اجهزة قمعية، واحتكار الثروة من قبل النخب الفاسدة، ومواجهة الحراك المجتمعي وقمع كل محاولة للتغيير.
ان جردة حساب سريعة تؤكد هذه الحقائق. أصبحت دولنا اكثر فقرا رغم وجود الثروات. تعمم الفشل في التعليم الرديء والاقتصاد المنهار، وزادت اوضاع المرأة سوءا في ظل انظمة مستبدة تمارس القمع ضد كافة فئات المجتمع.
ان مقاربة قضايا المرأة في الفترة الممتدة منذ نهاية الحرب الباردة اوائل التسعينيات من القرن الماضي، وحتى العام 2010 ، تحت عناوين التمييز الايجابي وتمكين المرأة، لم يغير شيئا في اوضاع النساء في مجتمعاتنا، وبقيت اغلبية النساء تعاني من الاستبداد والفقر والاضطهاد الاجتماعي والتمييز.
لقد اعتقدت دوماً أن وضعاً أفضل للمرأة يقتضي إدماج قضية تحررها وحقوقها بقضية المجتمع وتحرره وحقوقه.
عندما تنجز عملية التغيير وتقام الدولة لجميع مواطنيها سيكون للمرأة مكانتها وستحظى بفرص افضل لنيل حقوقها باعتبارها جزء من مجتمع انجز تحرره من الاستبداد. عندما تكون رؤية القوى السياسية الموجودة في الدولة والحكم مؤمنة بأن المرأة كائن إنساني مساوي للرجل في الحقوق والواجبات ولا يجوز الإنتقاص منها ومن حقوقها ، تكون قضية المرأة قد وضعت دفعت واحدة في مسار الخلاص من الظلم والتمييز الذي تعاني منه.
هذا يتطلب ان تكون قضية إنصاف النساء والمساواة جزءا من ثقافة قوى التغيير ورؤاها. غير ذلك ، سيكون "التمكين" مجرد إجراءات إستثنائية تؤكد نهج التمييز.
إذا كانت الدولة والقوى الممسكة بالسلطة في أي بلد تؤمن بالمساواة وتنبذ التمييز بين النساء والرجال، فلن تحتاج النساء الى "تمييز إيجابي" يمنحها بعض حقوقها. وإذا كانت ثقافة القوى الحاكمة تتبنى التمييز ضد المرأة وتراها أقل من الرجل ، وتنشر هذه الثقافة في مناهجها التعليمية ومدارسها ومساجدها ، فلا مجال لتغيير الموقف من المرأة الا بتغيير سياسي يواجه القوى الحاكمة وثقافتها التمييزية المتخلفة.
كثيرا ما كان "التمكين" سطحيا وأداة بيد أنظمة معادية للمرأة وحقوقها. التمكين يمكن ان يكون أداة تغيير لصالح المرأة عندما تحل مشكلة السلطة والاستبداد، واتكلم هنا عن مجتمعات ودول لا زالت لم تنجز بعد هذه الاشكالية، وتمارس ديكتاتورياتها الصريحة أو المتقنعة بالديمقراطية الزائفة سياسات معادية للمرأة والمجتمع كله، ولا تقر للشعب بحقه في حكم نفسه بنفسه من خلال نظام ديمقراطي نزيه وحر.
هذا عن وضع المرأة في مجتمعاتنا. وحالة حقوق الانسان عموما لا زالت في اسوء حالاتها ، وزادت سوءا بسبب الحروب الانتقامية ضد ثوراتنا ومجتمعاتنا.
لقد جاءت الحروب للانتقام من شعوب رفعت صوتها من اجل ان تقرر مصيرها وتختار من يحكمها.
أصدقائي وصديقاتي الأعزاء:
كلما حاولت النظر في تجربتنا خلال العقد الماضي، أجد نفسي أعود الى جوهر عملية التغيير التي مثلها الربيع العربي، وكيف مثل اختبارا للمواقف الدولية من مجمل قضايا الحريات وحقوق الانسان والديمقراطية والتحول المنشود باتجاه المجتمع المدني والدولة الحديثة.
كل ما يردده العالم من شعارات عن دعم الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار حكامها، تبدد في موقفه من ثورات الربيع العربي. لقد واجهنا حربا عالمية، ولا زالت مستمرة إلى اليوم. لم نتجاوز نواميس الكون عندما رفعنا أصواتنا من أجل التغيير. كانت الأنظمة المستبدة قد فشلت، وتعفنت؛ البطالة، الفقر، القهر، القمع، كبت الحريات، الفساد، وتوريث الجمهوريات للأبناء، كل ذلك كان واقع الانظمة العربية قبل ثورات الربيع العربي في 2011. كان الإرهاب نتاجا للإستبداد، سواء باستخدام الانطمة للجماعات المتطرفة، أو بفشلها الاقتصادي والسياسي وايصالها لمجتمعاتها الى الجدار المسدود.
ملايين الشباب العربي وجدوا أنفسهم مجردين من طموحاتهم ومن فرص الحياة. لم نختلق الثورات من العدم. لقد تأخرت ثورات العرب، وعندما جاءت كانت فرصتنا التاريخية للحاق بالعصر. لكن النظام العالمي وقف مساندا الثورات المضادة التي قادتها اقليميا السعودية وإيران والامارات. ضخوا الأموال والأسلحة وجندوا الميليشات ودعموها لمواجهة طموحاتنا ببلدان ديمقراطية تسودها المواطنة والقانون. لم نهاجمهم، ولم نعلن الحرب ضدهم، لكنهم رأوا في حريتنا خطرا عليهم ، وفِي انجاز التغيير في بلداننا إعتداءا عليهم. تختلف السعودية وإيران في من سيحصد نتائج حروب الثورات المضادة ضد شعوبنا ، لكنهم يتفقون في الأهداف المعادية للثورات والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة.
الأعزاء والعزيزات:
اليمن جزء من هذا العالم الذي نعيش فيه ولكنها تواجه مآسي الحرب الفاشية وأزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم، وحيدة وعزلاء من أي مساندة حقيقية. فشلت الامم المتحدة والدول الكبرى في مساعدة اليمن لوقف الحرب واستعادة دولته. لم يفعل العالم شيئا لوقف ابادة اليمنيين.
الدول الكبرى تغمض عيونها عن إيران ودعمها للميليشات الحوثية، وفي الجهة المقابلة تغلب مصالحها مع السعودية والإمارات، وتتغاضى عن عبثها وجرائمها في اليمن.
هذا الخذلان الأممي والدولي في اليمن يقدم مساندة ضمنية لأمراء الحرب في الداخل والعابثون بالدم اليمني في ايران والرياض وابوظبي.
ان إخفاق وعجز النظام الدولي عن تفعيل آلياته الجماعية لإيقاف الحرب والانهيار الاقتصادي ومساعدة اليمنيين في استعادت دولتهم الوطنية ساهم في توطين الحرب والفوضى وفاقم الأزمة الانسانية.
للعام السابع وشعبنا يواجه حربا انتقامية شاملة. حربا شرسة تمثل نمطا جديدا من تقويض اسس الحياة لكل السكان. انهارت الدولة واجتاحت ميليشيات الحوثيين الطائفية العاصمة والمدن. قطعت المرتبات وانهار النظام الصحي ونظام الخدمات وتحكمت الميليشيات بالمساعدات الدولية. هذه المليشيات سيطرت على المدارس وغيرت مناهجها وفرضت ملازمها المذهبية المتطرفة بدلا عنها، وتجرم الفن وتعادي النساء وتفرض عليهن الانصياع لرؤية متزمتة ومتطرفة لا تختلف عما تفعله حركة طالبان في افغانستان.
قصفت السعودية والامارات مدننا وبنيتنا التحتية وأنشأت ميليشيات اخرى موالية لها في مدينة عدن. منعت الحكومة الشرعية من العمل من داخل البلاد وسيطرت الامارات على الموانيء والمنشآت النفطية والغازية وتسيطر على جزيرة سقطرى بواسطة ميليشيات تتبعها.
يعاني ملايين اليمنيين من المجاعة وسوء المعيشة والحرب والفوضى وانقطاع المرتبات والاجور وانهيار نظام الخدمات والعملة الوطنية.
نطالب العالم بايقاف هذه الحرب الوحشية ضد شعبنا اليمني. نطالب العالم بمساندة شعبنا لاستعادة دولته واستكمال المرحلة الانتقالية وفق المرجعيات الثلاث المتمثلة بقرارات الشرعية الدولية ممثلة بمجلس الأمن الدولي ، والشرعية الوطنية متمثلة باتفاقية نقل السلطة ومخرجات الحوار الوطني. نطالب العالم بفرص القيود على أمراء الحرب وقادة الميليشات لا التعامل معهم كأطراف سياسية.
نطالب العالم بإحترام حق شعبنا في الحياة ووضع حد لحرب فاشية اجتمعت فيها إيران والسعودية والإمارات وميليشيات مدعومة منهم وشريكة لهم في حربهم ضد شعبنا وبلدنا.
في ختام كلمتي هذه ؛ أقول لكم:
إن ايماننا بحقنا في حياة تصان فيها حقوق الانسان وحريته وكرامته، لن يخبو، ولن تنطفئ شعلته مادام فينا نفس ينبض بالحياة.
دمتم جميعا أحرارا ومكافحين أشداء من الأجل الإنسانية، والمجد للكفاح الانساني المستمر من أجل الكرامة والمواطنة والعدالة والحرية والحياة الكريمة لكل البشر.