كلمات
في البداية أود أن أشكر لجامعة بادوفا على دعوتها لي بالحديث حول قيمة أراها أساسية ومحورية في حياتنا ونضالاتنا، وهي قيمة الحرية. بالنسبة لي، الحرية هي القيمة التي يجب أن يتحلى بها كل واحد منا، وأن يدافع عنها بكل قوة، وأن لا يساوم عليها مطلقا، لأنه عندما يفقدها يفقد إنسانيته، ويصبح مثل الآلة، لا يملك قراره.
كانت الحرية ولا تزال موضع جدل وصراع دائمين، فهناك من يرى فيها شرطا أساسيا لحياة كريمة يستطيع الناس والمجتمعات فيها العيش دون انتقاص من حقوقهم، ودون إهدار لكرامتهم. وهناك من يعتقد أنها ليست بتلك الأهمية، وأن الأمن يظل غاية الإنسان ومطلبه الأساسي في الحياة.
في العالم العربي، شكلت ثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011 مناسبة لهذا الجدل والصراع، وقد استخدمت في هذه المواجهة الكثير من الأموال، والكثير من السياسات القمعية، والأحلاف الدولية المشبوهة، بدعوى أن المطالبة بالحرية سوف تؤدي للفوضى. لقد حلت الفوضى فعلا، لكن السبب الحقيقي هي عواصم الثورات المضادة التي تخشى أن يكون الشرق الأوسط حرا وديمقراطيا.
لقد واجه شباب وشابات ثورات الربيع العربي حربا كبيرة تتعلق بالحرية، ومن المؤسف أن الحكومات الغربية اختارت أن تصطف إلى جانب الديكتاتوريات في تنكر واضح للمبادئ الإنسانية التي كانت تنادي بها، مفضلة امتيازاتها الاقتصادية على ما سواها.
باعتقادي أن الربيع العربي هو ثورة الحرية في بداية القرن الواحد والعشرين. لقد طالبنا بالحرية والانعتاق من أنظمة قامعة ومستبدة لا تتردد في ارتكاب مجازر ابادة جماعية ضد مجتمعاتها من أجل أن تستمر فوق رقابهم، وسوريا تصلح أن تكون مثالاً لأعلى مستوى من الابادة الجماعية في عالم اليوم، قام بها نظام الاسد وحلفاءه في إيران وروسيا.
الأصدقاء الأعزاء..
بوصفي حائزة على جائزة نوبل للسلام، أود الإشارة باختصار عن العلاقة التي تجمع الحرية والسلام، فهذا أمر ضروري ولا يتم التطرق له كثيرا.
هناك وجهتا نظر، الأولى تمثل الضحايا ومن يقاومون الظلم والقهر، والأخرى تمثل الجلادين وأنظمة الاستبداد. المناضلون من أجل الحرية يرون بأنها شرط السلام والاستقرار والتنمية وازدهار الحياة، ويراها المستبدون خطرا مهددا لوجودهم.
السلام كما يراه المناضلون من أجل الحرية، الاستقرار القائم على العدالة والمساواة والمواطنة ودولة القانون والحرية، وهو بالنسبة للمستبدين رضوخ المجتمع لجبروتهم وتسليمه بظلمهم كقدر لا فكاك منه، ولا نجاة منه إلا بالاستسلام.
السلام الذي يتأسس على خضوع المقهورين لقاهريهم ليس سلاماً وإنما حرب يومية لا يخمد أوارها تسحق آدمية البشر كل يوم وكل ساعة وكل ثانية يتنفس فيها المظلومون هواءً ملوثا بالعبودية والخضوع للقوة الغاشمة.
والسلام كما نراه نحن الذين ننتمي لشعوبنا ولآدمية البشر وحق كل إنسان في الكرامة والحياة هو السلام الذي يمكن الناس من التمتع بحقوقهم وحرياتهم ويكفل لهم صون كرامتهم من خلال دولة قانون تمثلهم لا أن تكون حربا عليهم.
إن الحرية والسلام كلمات أشبه بالحلم في عالمٍ ما فتئ يرسخ التفاوت والظلم والقهر، ويدفع بمزيد من البشر إلى مهاوي سحيقة من العوز والحياة غير اللائقة بالبشر.
إن أحلامنا بعالم تسوده الحرية والسلام والعدالة والمساواة تصطدم بأنظمة محلية وعالمية تعمل من وحي مصالحها من أجل استمرار القهر والظلم واللامساواة واللامبالاة بما تعانيه أعداد متزايدة من البشر من الظلم والقهر والجوع والافتقار لأبسط مقومات الحياة.
الأصدقاء الأعزاء..
لقد كان صعود العنصرية في الغرب، وذروتها الظاهرة الترامبية التي تنفس العالم مؤخراً بسقوطها، صادما للعالم كله.
إن سن القوانين التمييزية ضد المواطنين الذين يدينون بالإسلام في دولة مثل الدنمارك يعطينا اليوم مثالاً قاتماً عما يهدد قيم المساواة وقيم الدولة الديمقراطية في الغرب كله.
لسنا بصدد اعطاء دروس للغرب في الديمقراطية والمواطنة والمساواة، ولكننا نحاكمهم من خلال منظومة حديثة يدعون انتماءهم لها. إن السكوت على الانتهاكات والصمت امام وأد الانظمة الاجرامية لثورات الربيع العربي وارتكاب مجازر الابادة الجماعية، هذا الصمت المتواطئ لا يضمن أمن امريكا والدول الاوربية، ويبقيها بمأمن من تأثيرات عالم يشهد ارتدادا مخيفا وتراجعا عن احترام حقوق الانسان وحق الشعوب في النضال من اجل الحرية والعدالة والمساواة واختيار حكامها وتغييرهم سلميا. كيف يكون الغرب ديمقراطيا وواحة للحرية بينما يرى في ثورات الربيع العربي السلمية المطالبة بالحرية والعدالة ودولة القانون والديمقراطية وحقوق الانسان خطرا على مصالحه؟
لذلك من المحير فعلا، أن يعبر البعض عن صدمته من الظاهرة الترامبية، ثم لا يصدم من مذابح الإبادة الجماعية الممارسة في اليمن وليبيا وسوريا عقابا لشعوبها على مطالبتها بالتغيير السياسي، وعلى ثوراتها السلمية!
لقد خاض العالم حربا ضد شعوبنا العزلاء، استخدموا ضدنا الأنظمة الساقطة والإرهاب والمحاور الاقليمية الطامحة بتقاسم بلداننا وثرواتنا.
لم يتبقى من المجتمع الدولي سوى مبعوثين يملؤون مقاعد وظيفية شاغرة بروتينية اعتيادية، ولا يفعلون شيئا يذكر لمنع الجرائم ضد الانسانية ووقف حروب الابادة.
تتحرك الميليشيات والدول الاقليمية المارقة عن القيم الانسانية وتخوض حروبها بأريحية وسقف مفتوح أمام العالم وبدون قيود أو خشية من عقاب أو عقوبات من أي نوع.
إن المفاضلة ينبغي أن تكون بين نظام عالمي ظالم ونظام عالمي عادل. ليس تغييرا أن يستبدل توجه عالمي ظالم وفج في شوفينيته وعنصريته، بتوجه عالمي ظالم يختلف عنه في أساليبه الناعمة والمراوغة.
اسمع عن دعوات وتوجهات لعزل دول الغرب عما يحدث في العالم الثالث، اسمحوا لي أن أقول لكم بعبارات واضحة، هذا ليس حلا مناسبا لضمان أمن بلدانكم واستقرارها، وبقاءها بعيدا عن تأثيرات انهيار الدول وشيوع المجازر والمذابح الجماعية وانتشار الإرهاب والميليشيات الطائفية وتغول الدول الدينية مثل إيران والسعودية في محيطها الجيوسياسي.
كراهية الاجانب ومكافحة المهاجرين ليست حلا. المهاجرون ليسوا هم المشكلة. لقد التزم العالم المتحضر الصمت أمام حروب ثورات مضادة انتقامية حولت بلدان الربيع العربي إلى جحيم يقتل فيه مئات الالاف ويفر منه ملايين النازحين واللاجئين الذين انهارت أوطانهم وفقدوا المأوى ووجدوا أنفسهم في العراء بين حدود الدول في عالم متوحش لا يعترف بآدميتهم ولا ينظر لهم كبشر.
الأصدقاء الأعزاء..
وضع الحريات اليوم هو وضع مقلق حتى في الدول التي كان ينظر إليها بالدول الديمقراطية العريقة مثل الولايات المتحدة وأوروبا، أما بالنسبة للعالم العربي وكثير من الدول النامية فهو وضع بائس جدا. لذا يجب أن يكون هناك عمل كبير ومسؤول تتشارك فيه الحكومات والبرلمانات الديمقراطية والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وأبرز الناشطين المعروفين بتوجهاتهم الداعمة للحريات لمنع تصاعد سياسات القمع في العالم. إن الحرية مسألة أساسية للإسهام في إرساء دعائم الاستقرار والأمن وليس كما يتم الترويج له من قبل الفاشيات السلطوية بأنها علامة من علامات الفوضى والخراب.
لا أستطيع أن اتخيل -وأظنكم مثلي- عالما من القمع والاستبداد، لذا من الضروري أن يكون لدينا موقف داعم للحرية وللذين يريدون التعبير عن أنفسهم وأفكارهم ومعتقداتهم.
الأصدقاء الأعزاء..
أعلم أن هناك النقاشات حول حدود الحرية وما إذا كانت مطلقة أو مقيدة مستمرة، واعتقد أنها لن تتراجع يوما. مبدئيا، القوانين وجدت لتنظيم هذه المسألة، ولكن يجب أن تكون القوانين هدفها الحرية ومنع الاعتداء على الآخرين، وليس هدفها المنع أو الحظر. وللتوضيح، فإن فلسفة القوانين التي تصدرها دولة مثل بلجيكا أو هولندا أو كندا تتوخى ضمان الحريات، مع مراعاة بأن لا تؤدي تلك الحريات بالإضرار بالأخرين، لكن في دول كثيرة تصنف بأنها دولة نامية أو ديكتاتورية، فإن فلسفة القوانين تنطلق من التضييق على الحريات بشكل أساسي.
لقد أدى التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات وبروز مواقع التواصل الاجتماعي إلى مزيد من الحريات، لكن في المقابل أدت تلك التطورات لتبني دول بعينها حزمة من القوانين التي تسعى لتقييد الحريات على تلك الوسائل، من بينها الإعلان عن عقوبات تستهدف الذين يقومون بالضغط على علامة الاعجاب في فيسبوك وتوتير.
لا أنكر أن هناك استخدام سيء للحرية، لكن هل يكون الحل بمنعها؟ لا أظن أن هذا توجه سليم مطلقا. يجب أن يكون هناك معايير واضحة توضح كيف يمكن وقف الاستخدام السيء للحرية، أو الاستخدام السيء لوسائل التواصل الاجتماعي. اعتقد أن قضية منع الرئيس ترامب من التغريد في تويتر، والإجراءات التي اتخذت ضده من قبل الفيسبوك تجعلنا نفكر بطريقة أكثر جدية، هل هذه الإجراءات كانت ضرورية أم لا؟ وهل هناك سند أخلاقي وراء هذا العمل، وكيف يمكن أن نفرق بين الحرية وأعداء الحرية؟
المجتمعات الحرة تستطيع أن تدير نقاشا حول هذه المواضيع، وأن تصل لاتفاقات تضمن مزيدا من الحرية وتضمن قدرا لا بأس من المسؤولية، لكن لا يمكن للمجتمعات التي تعيش تحت نظم ديكتاتورية أن تتقدم خطوة واحدة في هذا المجال، لذا فإن رأي أو منشور في الفيسبوك حول مناهضة الفساد قد يعد جريمة وتحريضا على الكراهية، بينما رأي أو منشور يدعو لقتل المعارضين السياسيين أو التحريض على جزء من المجتمع جزء من الدفاع عن الدولة والأمن القومي.
الأصدقاء الأعزاء..
تعلمون أن مجالات الحرية كثيرة ومتعددة، واعتقد أنه من الضروري أن يصار إلى ضمان حرية التعبير وحرية المعتقد وحرية التنقل وحرية البحث العلمي وحرية العمل السياسي بصورة أساسية، فهذه أرضية مهمة سوف تسهم في إحداث تغيير ملموس وحقيقي على حياة كثير من المجتمعات والأفراد.
علينا أن نفكر بالحرية بصورة مسؤولة، أن نحميها من العبث، لكن بطريقة لا تؤدي إلى إنتاج وصاية. إذا كان لي من كلمة في النهاية، فهي أن الحرية تستحق ليس الدفاع عنها وإنما الموت في سبيلها، لكن هذه القناعة لديّ لا تعني أن الحرية قد أصبحت صنما، بالعكس، يجب أن نكون صرحاء في التفريق بين الحرية وبين ادعاء الحرية، لكن هذا التفريق يجب أن ينبع من مراجعات يقوم بها أشخاص ومؤسسات ديمقراطية، وليس مؤسسات ديكتاتورية.
في هذا السياق، أود القول إن الحرية ستظل أقوى من خصومها، فهي تملك القدرة على قهر كل الصعاب التي تعترض طريقها.
الأصدقاء الأعزاء..
ست سنوات وشعبنا اليمني يواجه حربا انتقامية شاملة. حربا شرسة تمثل نمطا جديدا من تقويض أسس الحياة لكل السكان. انهارت الدولة واجتاحت ميليشيات الحوثيين الفاشية العاصمة والمدن. قطعت المرتبات وانهار النظام الصحي ونظام الخدمات وتحكمت الميليشيات بالمساعدات الدولية. قصفت السعودية والامارات مدننا وبنيتنا التحتية وأنشأت ميليشيات اخرى موالية لها في مدينة عدن. منعت الحكومة الشرعية من العمل من داخل البلاد وسيطرت الامارات على الموانئ والمنشآت النفطية والغازية وتحتل جزيرتي سقطرى وميون.
نطالب العالم بإيقاف هذه الحرب الوحشية ضد شعبنا اليمني. نطالب العالم بمساندة شعبنا لاستعادة دولته واستكمال المرحلة الانتقالية وفق المرجعيات الثلاث المتمثلة بقرارات الشرعية الدولية ممثلة بمجلس الأمن الدولي، والشرعية الوطنية متمثلة باتفاقية نقل السلطة ومخرجات الحوار الوطني. نطالب العالم الديمقراطي بوقف مساندة السعودية والإمارات المتورطتين بجرائم حرب ضد الانسانية في اليمن ووقف مبيعات الأسلحة لهاتين الدولتين. نطالب المجتمع الدولي بمساندتنا لتقديم مجرمي الحرب للعدالة ومحاكمة المتورطين بجرائم الحرب في اليمن امام المحاكم الدولية، وإلزام إيران بوقف مساندتها للميلشيات الحوثية. نطالب العالم بفرص القيود على أمراء الحرب وقادة الميلشيات لا التعامل معهم كأطراف سياسية.
نطالب العالم باحترام حق شعبنا في الحياة ووضع حد لحرب فاشية اجتمعت فيها إيران والسعودية والإمارات وميليشيات مدعومة منهم وشريكة لهم في حربهم ضد شعبنا وبلدنا.
في الأخير، طريق الحرية شاقة، وكذلك طريق السلام، لكن يجب أن نؤمن بأنفسنا وبقدرتنا على أن نكون في حال أفضل.
أحييكم، وعبركم أحيي كل المكافحين من أجل الحرية والسلام، من أجل عالم أفضل تسوده قيم العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.