كلمات
ألقت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان كلمة خلال قمة جائزة نوبل تحت عنوان "التضليل والأخبار الزائفة وسُبل مواجهتها" فيما يلي نصها:
الأصدقاء الأعزاء
مرحبا بكم جميعا. سعيدة بالمشاركة معكم في هذا النقاش المهم حول ما يمكن أن يفعله التضليل الإعلامي ونشر المعلومات الخاطئة في حياتنا. بناء على طلب منظمي هذه الفعالية، فسوف أركز على كيف أسهمت سياسة التضليل التي اعتمدتها بعض الدول في انتشار وباء كوفيد 19، مما أدى لموت وإصابة الملايين من البشر. كما سوف اتحدث عن بعض القضايا المتصلة بانتهاج بعض الحكومات لسياسة الكذب لترسيخ سلطاتها وتشويه خصومها السياسيين وشيطنتهم.
الأصدقاء الأعزاء
ينسب لبسمارك مقولة مفادها أن الكذب يكثر عادة، قبل الانتخابات وخلال الحرب وبعد الصيد. لسوء الطالع، لقد اثبتت الأحداث فيما بعد، أن الكذب والتضليل السياسي على وجه الخصوص أشمل من ذلك بكثير. لقد تحولت معظم الحكومات إلى مصانع لإنتاج الأكاذيب وتضليل مواطنيها. لا أريد أن أستطرد في هذه النقطة، لكن باختصار، تعتبر الحكومات الديمقراطية سياسة التضليل أمرا مبررا لتمرير سياستها، وخفض مستوى الرفض في أوساط المواطنين، أما الحكومات الشمولية، فهي تعتبر التضليل السياسي والإعلامي بمثابة واجبا وطنيا مقدسا، حتى لا يتأثر الشعب بأفكار غير جيدة، وعادة ما تكون هذه الأفكار هي الحرية والديمقراطية والعدالة ونزاهة الانتخابات.
الأصدقاء الأعزاء
يتذكر العالم كيف دافع وزير الخارجية الأمريكية كولن باول عن فكرة امتلاك نظام صدام حسين للأسلحة النووية، وأن هذا الأمر يعد سببا كافيا للبدء في عملية عسكرية كبرى ضد العراق. تعد هذه الحادثة أحد الأمثلة على خطورة التضليل، وفداحة الثمن الذي يمكن ندفعه جراء انتهاج سياسة الكذب واحتقار الحقيقة. لقد اسفرت هذه الحرب عن وقوع مئات الالاف من القتلى والجرحى، واسهمت في ازدياد معاناة الشعب العراقي، وسمحت بتواجد التنظيمات الإرهابية وما جر ذلك من ويلات ومن تكلفة إنسانية باهظة.
لا شك أن هناك نماذج كثيرة للتضليل السياسي والإعلامي، ولست هنا لاستعراضها بطبيعة الحال، لكن احييت أن أشير لنموذج معروف للجميع. ربما سيكون من الجيد، أن أدعوكم لوضع النموذج اليمني ضمن نماذج سياسات التضليل التي أدت لحدوث أكبر كارثة إنسانية في العالم بحسب توصيف الأمم المتحدة. لقد شن التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية حربا واسعة ضد اليمن تحت شعار دعم شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي في مواجهة الانقلاب الحوثي المدعوم من قبل إيران، لكن ما حدث، هو استيلاء السعودية والامارات على موانئ اليمن وجزره، وإضعاف سلطة الرئيس هادي من خلال إنشاء وتشكيل مليشيات مسلحة، وتعذيب الناشطين الحقوقيين والمناهضين لوجودهم، وإقناع العالم بأنهم يحاربون الإرهاب وتنظيم القاعدة.
أتذكر بدايات خروجنا إلى ساحات وميادين الثورة الشعبية في اليمن قبل عشر سنوات كأول مواجهة لنا مع نوع جديد من الحرب ، مع التضليل وبث الاشاعات والمعلومات الخاطئة وفبركة الأحداث والوقائع. كانت هذه الحرب التضليلية وجها واحدا من وجوه حرب شاملة اعلنها النظام المستبد ضد الثورة الشعبية.
كنّا نشيع أوائل الشهداء الذين سقطوا بنيران العسكر والمسلحين الذين جلبوا لمواجهة التظاهرات السلمية ، وفِي القناة الرسمية اطل علينا المتحدث باسم النظام عبده الجندي ليقول ان شباب الساحات يجلبون الجثث من اماكن بعيدة حيث تدور مواجهات بين معسكرات جيش النظام والقبائل لندعي انهم سقطوا في التظاهرات السلمية !
كانت هذه اولى بواكير حرب تضليل واسعة ومهولة استخدمتها الانظمة في عواصم الربيع العربي ، واستخدمتها الميليشات المسلحة التي شاركت النظام في اليمن ثورته المضادة ضد الثورة الشعبية في اليمن ، واعني بها هنا ميليشات الحوثي الارهابية التي تحالفت مع نظام المخلوع صالح في الانقلاب واستخدام الميليشات في اجتياح العاصمة صنعاء والمدن اليمنية في 21 سبتمبر 2014.
لقد أردت من إيراد هذه الأمثلة أن أشير كيف يتسبب التضليل السياسي والإعلامي في صنع كوارث إنسانية، وفي تحطيم دول، وتمزيق شعوب.
الفضاء المفتوح في الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ، بقدر ما كسر الحاجز امام القطاعات الجماهيرية المتطلعة للتغيير والوصول الى الرأي العام ، فهو في الوقت نفسه قد استخدم من قبل ميليشات الكترونية منظمة من قبل انظمة فاشية ومستبدة وميليشيات طائفية ومذهبية ودول تعادي الحريات وحقوق الانسان وتعادي التغيير والثورات الشعبية.
لن يتسع الوقت لاستعراض مختصرات سريعة عن موجات بث الاشاعات والتضليل والاخبار المفبركة والتحريف وحرب المعلومات المضللة التي واجهناها في اليمن وعواصم الربيع العربي وما زلنا الى اليوم نواجهها.
ان التضليل والمعلومات الخاطئة والاشاعات حاولت طمس الحقائق والتغطية على حرائم حرب ضد الانسانية ارتكبت في اليمن وسوريا وعواصم الربيع العربي.
تلتقي إيران والسعودية وروسيا والإمارات في كونها دولا يجمعها قاسم مشترك هو عداءها للتغيير والثورات الشعبية وقيم الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان.
لقد شاركت هذه الدول في حروب مضادة لثورات الربيع العربي رضخت جبالا من المعلومات الخاطئة والتضليل والاشاعات والفبركات بهدف تضليل الرأي العام وخلط الحقائق بالأكاذيب ، والوقائع الحقيقية بالفبركات المصنوعة بواسطة ميليشات الكترونية تشتغل خمسة وعشرين ساعة في اليوم لجعل التمييز بين الحقائق والأكاذيب متعذرا أمام الرأي العام.
هل بإمكان مكنة التضليل المهولة للنظام السوري وحلفاءه في إيران وروسيا ان تلغي حقيقة المذبحة التي راح ضحيتها ما يقرب من 700 الف سوري قتلوا بهدم المدن فوق ساكنيها والبراميل المتفجرة وقصف الاحياء السكنية ؟
هل بامكان التضليل ان يمنعنا من ادراك حقيقة نزوح ملايين السوريين هربا من آلة الموت الوحشية في سوريا ، وهي الة قتل شارك فيها الغزاة الايرانيين والروس ؟
في اليمن واجهنا نظام المخلوع صالح والميليشيات الحوثية وحليفتها إيران ، وواجهنا ثورة مضادة قادتها السعودية والامارات. اعلنت الحرب على شعبنا وثورتنا السلمية. واجهنا ميليشات شيعية مسنودة بايران ، وواجهنا تآمر السعودية والامارات ومحور الثورة المضادة بآلته العسكرية والته التضليلية واكاذيبهم وفبركاتهم وشائعاتهم.
بموازاة المجازر والمذابح وهدم البيوت واعتقال الالاف والتنكيل بالسكان المدنيين ، استخدمت الميليشات الحوثية التضليل وترويج الاكاذيب والمعلومات الخاطئة في محاولة لتصوير نفسها بصورة الضحية. ساعدها في ذلك جرائم السعودية والإمارات ، وكلاهما يشن حربا ضد شعبنا اليمني ، احدهما يشنها من الداخل ، والاخر من الخارج.
الأصدقاء الأعزاء
اليوم لا أظن أن أحدا لم يدرك فداحة التضليل والكذب وبث معلومات خاطئة، فالتعامل السيء مع وباء (كوفيد 19) تسبب في وقوع مئات الالاف من الضحايا، وإيقاع خسائر اقتصادية كبيرة، وتعطيل الحياة الاعتيادية. لقد غير (كوفيد 19) وجه العالم، ولا أعرف هل هذا التغيير سيكون للأبد، أم أنه سوف يتوقف بعد عام أو عدة أعوام. ما أعرفه جيدا، أن ما أحدثته (كوفيد 19) كان كبيرا، وكان بإمكان التقليل من أثاره وتداعياته لولا التضليل وبث معلومات خاطئة خاصة بطبيعته وطرق التصدي له ومكافحته.
بعيدا عن الاتهامات للنظام الصيني بعدم الشفافية وتعمد الانخراط في تضليل واسع النطاق فيما يتعلق بكوفيد 19، مما أدى لانتشار هذا الوباء على هذا النحو المخيف، سيكون من الضروري أن تكون حكومة بكين أكثر شفافية، وأن تفصح عن المعلومات الحقيقية التي بحوزتها حول الوباء، فقد أثبتت الشهور الماضية، أن الخطر يداهم الجميع، وأن لا أحد بمعزل عن أثار هذا الوباء المفترس.
إن سياسات التضليل وبث أخبار خاطئة حول (كوفيد 19) ما تزال هي الأكثر انتشارا، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تعمد كثير من الدول لعدم الإعلان عن النسب الحقيقية للمصابين بالفيروس، اعتقادا منها أن إعلان النسب الحقيقية للمصابين سوف يلحق ضررا بسمعتها أو يجعلها مطالبة باتخاذ سياسات وتدابير اقتصادية يفوق قدراتها. وايا كان السبب، فإن هذه السياسة التضليلية قد أدت لارتفاع عدد الوفيات. كما يمكن ملاحظة ذلك، من خلال إعلان بعض الحكومات عن مساعدات كاذبة للدول المحتاجة. لقد قررت بعض الحكومات أن تسفيد من جائحة كورونا للظهور بمظهر المتعاون، لكن على أرض الواقع، أتضح أن تلك المعلومات كانت فخا دعائيا. ومن هنا، قد يكون من الضروري، أن يتم فضح ومساءلة تلك الحكومات، التي تلاعبت بالحقائق والمشاعر معا.
الأصدقاء الأعزاء
لقد كشفت محنة (كوفيد 19) أن التضليل وبث المعلومات الخاطئة ليس عملا يقوم به بعض الأشخاص الغاضبين أو الجهلاء وحسب، بل عمل تقوم به بعض الحكومات وبعض السياسيين، الأمر الذي يدعونا جميعا لأن نواجه المضللين بشكل صارم، وأدعو المؤسسات الدولية لرفع صوتها في هذا المجال، وأن يكون هناك مساءلة من قبل الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة لأي حكومة يثبت كذبها وقيامها بالتضليل فيما يتعلق بكورونا أو أي شيء أخر يتعلق بسلامة الإنسان أو الطبيعة على هذا الكوكب، فكلنا نعلم حجم المعلومات الخاطئة والمضللة في ما يخص البيئة والمناخ.
الأصدقاء الأعزاء
نحتاج أن يكون لنا صوت قوي وواضح ضد التضليل. العالم لن يكون في أمان وهناك تعمد في نشر معلومات غير صحيحة، وتضليل. على الصعيد الشخصي،
كنت - وما زلت - هدفا للإشاعات والأخبار الكاذبة والمضللة والفبركات والتضليل المعلوماتي من أول تظاهرة من اجل الحرية والتغيير قبل عشر سنوات في ثورة 11فبراير وحتى اليوم.
عرفت كل اساليب تضليلهم وحملات ذبابهم الالكتروني. واجهت الرصاص الحي مثلما واجهت طلقات التضليل والاكاذيب.
ما زلت هدفا للمعلومات الخاطئة والمضللة بدعم من قبل بعض الحكومات المستبدة في المنطقة التي تعتقد أن هذه الحملات التي لا تستند على أساس أو حقائق سوف تجعلني اتراجع عن نقدي لسياستها ضد حقوق الإنسان. لقد جمعوا لي شتى التهم، فمن داعمة للإرهاب والتطرف، إلى داعية للانحلال، إلى داعمة لأمريكا، إلى كافرة بالدين، شيء يدعو للسخرية، لكن آلة التضليل ما تزال تعمل للأسف.
من تجربتي هذه اقول لكم ان فضاء الحرية الالكتروني في الانترنت ومواقع التواصل تعرض ومايزال لهجمة ممنهجة تصدر من دول ومحاور اقليمية لا تروقها الحرية وترى في حرية تدفق المعلومات ومنصات التعبير والتواصل الاجتماعي خطرا ينبغي احتواءه عبر التضليل وضخ الاكاذيب والاغراق بالاخبار المزيفة وجعل التمييز بين الحقائق والاكاذيب صعباً في ظل هذا التشويش الهائل الذي تبثه على مدار الساعة.
ان ايماننا بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الانسان يحتم علينا تحديث وسائلنا وادواتنا واستراتيجياتنا لمواجهة التضليل والمعلومات الخاطئة وتضييق دوائر تاثيرها.
إن سياسة التضليل التي تنتهجها بعض الحكومات لا تنحصر بقضية أو موقف أو شيء. هي سياسة مدمرة تستهدف الجميع. لذا سيكون من الحكمة وقف ذلك، أو على الأقل إيجاد عمل جماعي يكشف تلك المزاعم والادعاءات والأكاذيب. لا يجب أن نقبل بالتضليل تحت أي ظرف.
وامام ذلك نحتاج بتنظيم جهودنا وتطوير وسائلنا لمحاصرة الأكاذيب ومضخاتها ، وابطال مفعول التضليل وكشف منابعه ومنطلقاته.
ان مهمتنا اليوم هي تأكيد الوجه الايجابي لوسائل النشر الحديثة والمفتوحة عبر الانترنت ووسائل التواصل ، ومحاصرة الوجه السلبي الذي يحاول ان يجعلها منصات للاكاذيب والتضليل والمعلومات المزيفة.
تنظيم وتطوير جهودنا في هذا الاتجاه وعبر كل الوسائل الممكنة ، سيجعل من عالمنا بيئة طاردة للأكاذيب.
اشد على اياديكم ، ولنعمل معا من اجل عالم ينبذ التضليل ويؤكد على حرية تداول المعلومات ونشر الحقائق وتعزيز البيئة الملائمة للحريات وحقوق الانسان.