كلمات
كلمة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان في مؤتمر الاحلام والآفاق المستقبلية - ايسلندا
في البداية أود أن اعبر عن مدى سعادتي بوجودي في ايسلندا، هذا البلد الجميل الذي ينضح بالجمال والحيوية، مسرورة بوجودي بينكم، وأشكر مركز هوفي ريكيافي للسلام على احتضان هذه الفعالية الهامة.
عندما تواجهنا مشكلات صغيرة أو كبيرة، فإننا نسعى إلى إيجاد حلول مناسبة، هذه الحلول تختلف من شخص لآخر، بناءا على عوامل عديدة منها، نظرتنا لحجم وخطورة المشكلة، واستعدادنا لاتخاذ خطوات جدية للحصول على ما نعتقد أنه الحل الأمثل، والخيارات المتاحة أمامنا، وكما يقال: كلنا نعيش تحت السماء ذاتها، ولكننا لا نرى الأفق نفسه.
في هذا العالم الذي يموج بالمشكلات والصراعات المختلفة، هناك دائما لا مبالاة تجاه بالحلول العادلة، جزء كبير من الفشل الذي يصيب الجهود التي يتم بذلها لحل ما يعترضنا من مشكلات هو بسبب افتقادها للعدالة والانصاف والرؤية الواضحة للمستقبل.
سوف أخصص هذه الكلمة لجانب مهم يجب أن تحتويه أي مقاربة نحو المستقبل، اعرف ان هناك العديد من الزوايا والتفاصيل والأركان الاخرى، لكن رأيت التعبير عن الشباب الذين غالبا ما يتم استدعائهم في الصراعات وتجنبهم عند اقتراح التسويات.
علينا الاعتراف بالشباب كقوى جبارة وطاقة عظيمة لصناعة السلام وقيادة التغيير، والكف عن النظر اليهم كأغرار تعوزهم الحكمة وتنقصهم القدرة والخبرة عن المشاركة في بناء السلام وصناعة التغيير.
إن تطلعنا لمستقبل افضل سيتحقق فقط حين نضع الشباب في قلب معادلة صناعة المستقبل، هذه الصناعة العظيمة للمستقبل يتم انجازها فقط حين يتم انجاز المشاركة الفاعلة للشباب في فض النزاعات وتحقيق السلام والانخراط الفعال في تصدر عمليتي التغيير والتنمية اللتين تحتاجهما وتشهدهما المجتمعات.
سيكون علينا ونحن نحشد الشباب ونضعهم في قلب معادلة صناعة السلام أن نضمن دورا فاعلا للصحافة ومنابر الاعلام في اشاعة ثقافة السلام والتعايش والقبول بالآخر ومناهضة الكراهية والعنف فكرا وممارسة، وعلى منابر الاعلام والنخب السياسية والفكرية والثقافية في المجتمع ونشطاء حقوق الانسان أن لا يكفوا عن بث مثل تلك الثقافة المنحازة للسلام واللاعنف والمحبة والتعايش والمناهضة للكراهية والعنف والصراع والارهاب.
إن خوض الشباب غمار الكفاح من أجل الإصلاح السياسي وانجاز دولة الحقوق المتساوية والعدالة والرشد واحدة من أهم المجالات لصناعة السلام وقيادة التغيير.
الاصدقاء الأعزاء:
يمكننا النظر إلى أن حالة اللاستقرار تتمثل في القمع والظلم ومصادرة الحقوق والحريات على أنها ضرب من الحرب تشنها الانظمة الفاسدة والظالمة ضد مواطنيها، ولذا فإن مناهضة تلك الأنظمة عبر الكفاح غير العنيف يعد فعلا جوهريا يقع في صلب صناعة عملية السلام، كما أقول دائما: إن السلام لا يعني توقف الحرب فحسب، بل أيضا توقف القمع والظلم.
في كثير من البلدان التي تشهد نزاعات وعدم استقرار تحتل فئة الشباب الحجم الأكبر من عدد السكان، ويعد تعطيل هذه الشريحة الواسعة وعدم إشراكها في تحقيق الاستقرار خطأ استراتيجي يقع فيه البعض للأسف الشديد.
كما تعلمون، فإن حالة اللاستقرار هذه تؤدي إلى حرمان الشباب من فرصة التعليم الجيد، والتأهيل اللازم للمشاركة الفاعلة في كافة المجالات والميادين العامة، وهذا بدوره ينعكس على فرص بناء عملية سلام دائمة ويجعل من كل الجهود التي تبذل من أجل تحقيق السلام تضيع سدى وتتعثر وتفشل في تحقيق أهدافها.
إن اسوأ شيء يحصل عند الحديث عن الحروب والصراعات النظر إلى الشباب على أنهم يتموضعون بين موقعين أثنين لا ثالث لهما: إما أدوات لارتكاب العنف أو ضحايا لها، فيما هناك موقع ثالث هم أهل له وأجدر به يتمثل في الكف عن كونهم وقودا للحرب، مما يؤدي إلى حرمان الحروب من أدواتها الفعالة، وأشدها خطورة على الاطلاق.
إن النظر إلى الشباب بوصفهم عوامل جبارة للتغيير الإيجابي والاعتراف بهم بأنهم قوة حيوية من أجل السلام، أمر بالغ الأهمية لإعطاء الشباب حقهم من جهة، ولتحقيق فوائد عظيمة لبقية الفئات في المجتمعات والشعوب من جهة أخرى.
إن الشباب هم أصحاب المصلحة الحقيقية في الاستقرار وفض الصراعات التي يشهدها عالم اليوم في اكثر من بقعة وبلد على سطح الكوكب ومعالجة ما تحمله مجتمعات كثيرة من بذور تفجر الصراعات واندلاع العنف، فهم عمليا وقود لهذه الصراعات وهم ضحايا لها، وهم من تقذف بهم الحروب والصراعات كلاجئين ومشردين ومن تحرمهم من فرص التعليم والتأهيل.
الاصدقاء الأعزاء:
إن أشد التحديات تعقيدا في العالم هي: الصراعات التي طال أمدها، وزيادة الاستقطاب الديني، والأرقام القياسية للمشردين، وآثار تغير المناخ، وهي تحديات تدعو إلى التفكير في مقاربات جريئة ونهج مختلف في التعاطي مع تلك التحديات، ويتطلب حلها سماع أصوات الشباب، فلا يمكن تحقيق السلام المستدام دون مشاركتهم النشطة، مع التركيز على التغييرات الإيجابية التي يقوم بها الشباب في مجتمعاتهم.
بإمكان الشباب أن يلعبوا دورا حيويا بالغ الاهمية في وقاية المجتمعات من اندلاع الصراعات ومنع نشوب الحروب من خلال تجفيف ينابيعها ومعالجة اسبابها وعوامل نشوبها، وهي جوانب حاسمة لا غنى عنها لتحقيق سلام دائم وشامل، يستعصي على الفشل ويتجنب عوامل الاخفاق. إن لم يلعب الشباب دورا ايجابيا فاعلا لصناعة السلام والمصالحة فسوف يزاولون ادوارا سلبية مدمرة لاستمرار الصراع واندلاع الحروب وتغذية الكراهية والاقصاء المتبادل بين فئات المجتمع ومكوناته وقواه المختلفة، وما ثمة خيار ثالث.
إن انجاز السياسات والبرامج والآليات الكفيلة واللازمة لإشراك الشباب في عملية صناعة السلام والتنمية يعد انجازا استراتيجيا يخلق سلاما مستداما، وتنمية شاملة ينعم بها كل المجتمع، وليس فئة الشباب وحسب.
إن كل سلام لا يشارك في صناعته الشباب سيكون سلاما محدودا يعوزه الشمول، ويفتقر للاستدامة، وكل تنمية اقتصادية لا ينخرط في انجازها الشباب مصيرها الفشل، وينتظرها الاخفاق والتعثر.
الاصدقاء الأعزاء:
إنه من الخطأ وضيق الأفق أن يسعى البعض لتحميل الشباب مسؤولية ما يحدث من اخفاقات على صعيد التنمية والمشاركة السياسية، فيما الحقيقة أن ما حدث من اخفاقات هو نتيجة فشل سياسات إشراك الشباب، وآليات إدماجهم لا إخفاقهم، هذا الاخفاق والفشل يتحمل كامل المسؤولية عن تزايد نزعات التشدد التي تؤدي إلى التشدد والتطرف العنيف في صفوف الشباب، وما يجره وينتجه من تهديد للاستقرار وتقويض للتنمية، وما يسفر عنه في كثير من الأحيان من عرقلة لجهود بناء السلام وتأجيج الصراعات.
هناك حاجة ماسة لاتخاذ كافة التدابير الدولية والوطنية لمعالجة الظروف والعوامل التي تؤدي إلى تزايد نزعات التشدد والتطرف في صفوف الشباب المفضي إلى العنف والارهاب، ومنها مكافحة الفقر وضمان حياة كريمة للشباب، فضلا عن ضرورة حصولهم للتعليم الجيد.
دون معالجة فعالة لتلك الظروف والعوامل على مستوى أممي ووطني، فإن الباب سيظل مفتوحا أمام الارهابيين ومناصريهم في استقطاب وتجنيد الشباب في صفوفهم، مستغلين ما وفرته تكنولوجيا الاعلام والاتصالات من تقنية فعالة للتواصل، وذلك لارتكاب العمليات الارهابية.
إن بإمكان الشباب أن يضطلع بدور هام في منع ومكافحة التطرف والعنف، لكن عملية مكافحة التطرف والعنف تحتاج إلى خطط فعالة وجهود متعددة الابعاد على كل الأصعدة الأممية والاقليمية والوطنية تضمن مشاركة الشباب واضطلاعهم بإدوار قيادية لا كوجود ثانوي هامشي في هذا المسعى النبيل، وهو محاربة الإرهاب.
إن من المؤسف حقا، أن يكون هناك مقترحات وتصورات كثيرة من أجل تحقيق مشاركة شاملة للشباب في بناء السلام، لكن لا أحد يحاول الاستفادة منها، هناك عدم مبالاة تجاه موضوع حساس كهذا، وهذا ما يجعل مستقبل السلام بلا افق.
الاصدقاء الأعزاء:
هناك أشياء كثيرة يجب أن تتغير، أفكار، أشخاص، سياسات، منظمات ومؤسسات، في هذا الإطار أرى ويرى كثيرون حول العالم أن هناك حاجة ماسة لتطوير واصلاح المنظمة الأممية، حتى يمكنها أن تضطلع بدورها في الزام كافة الدول الأعضاء في اتخاذ التدابير اللازمة وفقا للقانون الدولي لكفالة حماية المدنيين، بمن فيهم الشباب، أثناء النزاعات المسلحة وفي الفترات التي تعقبها.
وحتى تتمكن من الزام الدول الاعضاء باحترام حقوق الإنسان وضمانها لجميع الأفراد، بمن فيهم الشباب والمرأة، الموجودين داخل أراضيها والخاضعين لولايتها على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي ذي الصلة.
يجب ضمان أن تتحمل كل دولة المسؤولية الرئيسية عن حماية سكانها من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية وان لا يفلت مرتكبو تلك الجرائم من الملاحقة والعقاب.
تطوير وإصلاح الأمم المتحدة سوف يتيح لها الزام جميع الأطراف في النزاعات المسلحة لاتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين، بمن فيهم الشباب والمرأة، من جميع أشكال العنف. وكذلك الزام الدول الأعضاء بأن تمتثل للالتزامات المترتبة على كل منها فيما يتعلق بوضع حد للإفلات من العقاب، ويدعوها كذلك إلى التحقيق مع المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وسائر الجرائم الشنيعة المرتكبة ضد المدنيين، بمن فيهم الشباب والمرأة، ومحاكمتهم.
وكذلك ضمان الملاحقة الدولية وكفالة عدم الإفلات من العقاب لمجرمي الحرب ومرتكبي المجازر ضد الانسانية ومحاكمة المسؤولين عنها في كل من المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم المخصصة والمختلطة، والدوائر المتخصصة في المحاكم الوطنية.
لنعترف بوجود قصور كبير في وضع سياسات ملائمة للشباب تسهم بشكل إيجابي في جهود بناء السلام، بما في ذلك تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ودعم المشاريع الرامية إلى تنمية الاقتصادات المحلية، وتوفير فرص العمل والتدريب المهني للشباب، والنهوض بتعليمهم، وتشجيعهم على مباشرة الأعمال الحرة والمشاركة السياسية البناءة.
إن إشراك الشباب في وضع السياسات وتنفيذ الخطط ووضعها والاشراف عليها وتقييم عملية التنفيذ بما يعني تمكينهم من الادوار القيادية الملائمة. هناك حاجة ماسة لاتخاذ كافة التدابير الاممية والاقليمية والوطنية لمواجهة موجة الكراهية المتصاعدة وبث ثقافة التعايش والسلام والمحبة والحوار والتسامح بين مختلف الثقافات والاديان.
إن ما تقدمه الخطط والبرامج والصناديق الأممية والوطنية والاقليمية من دعم سياسي ومالي ولوجستي لا يزال محدود للغاية ومعدوم في مناطق ودول كثيرة بما يكفل اشراك الشباب في جهود بناء السلام والاسهام في التنمية والمشاركة في جهود استدامة السلام وعدم تكرارها في الفترات التي تعقب فض النزاعات.
لذا يجب تطوير إداء لجنة بناء السلام التابعة للأمم المتحدة بحيث يسند إليها مهمة تجفيف أسباب وعوامل الصراع والوقاية من اندلاع الحروب ومنها وضع الحلول وتنفيذ للمعالجات الكفيلة بالحد من تزايد نزعات التشدد التي تفضي إلى العنف والتطرف والارهاب في صفوف الشباب.
الاصدقاء الأعزاء:
سيكون أمرا رائعا، لو تم الاهتمام بالشباب أكثر، فالعالم سيكون أكثر أمنا، أؤكد لكم إن العالم سيكون أكثر أمنا وسلاما وازدهارا، فتهميش الشباب هو الباب الواسع الذي تدخل منه معظم الكوارث التي نعيش تحت ظلها في عالم اليوم، الفقر وانخفاض معدلات التنمية، وازدهار الجريمة المنظمة، والعنف والارهاب والصراعات والحروب، إن استيعاب الشباب في عملية البناء والتنمية يساعد في إرساء سلام وأمن مستدامين، ويحقق ما نصبو إليه من استقرار، وهو ما يجب أن نعمل من أجل تحقيقه.
كانت ماري كوري عالمة الفيزياء والكيمياء الشهيرة والحاصلة مرتين على نوبل، تقول: أنا لا أرى أبدا ما تم إنجازه، بل أرى ما لم يتم إنجازه بعد.
علينا أن نتمثل هذه الروح، روح كوري، ونمضي لإصلاح وانجاز ما يجب انجازه، علينا أن نكون أقوياء في مواجهة الأخطاء، علينا أن ننحاز للمستقبل، لا يوجد أفق أفضل من العمل من أجل أن نعيش غدا بطريقة أفضل.