كلمات
كلمة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان في مؤتمر هاليفاكس الدولي "مستقبل قادة العالم" - كندا
ألقت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان، اليوم، كلمة خلال المؤتمر الدولي التاسع للشؤون الخارجية والدفاع الذي ينظمه منتدى هاليفاكس الدولي للأمن وتستضيفه جامعتي دالهوزي وسانت ماري الكنديتين، وحمل عنوان "مستقبل القيادة العالمي"، فيما يلي نصها:
أعزائي عزيزاتي:
نتساءل، بداية، هل للعالم اليوم من يقوده فعلا، أم أن عالمنا اليوم قد دخل في عتبة الفوضى والحروب الامبراطورية من جديد؟!
هل دونالد ترامب وبوتين وأشباههم في الدول الإقليمية حالات فردية شخصية أم تعبير عن عالم اليوم المضطرب وعن نوع القيادة فيه؟!
هل النظام العالمي الراهن الذي تتحكم فيه الدول العظمى يقوم على إدارة الفوضى والحروب ورعايتها واستخدامها لإعادة تشكيل العالم ورسم مناطق النفوذ دون أي ضوابط أو خطابات مثل تلك التي عرفها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين؟!
وهل بإمكاننا أن نطلق على هذا الحال نظام عالمي أم أنه زمن اللانظام يعم العالم كله؟!
هل نستطيع القول إن الوجه الآخر للنظام العالمي هو الإرهاب والتنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة، وهو وجود دولة مثل كوريا الشمالية تضع العالم أمام خطر نووي محتمل، أم أن النظر للتهديد الإرهابي والتهديد النووي الكوري باعتبارهما حالة غير مرتبطة بالنظام العالمي وطبيعته ومن يتولى قيادته أمر ممكن وقابل للفهم؟!.
ربما طالت التساؤلات، لكنها طريقة ملائمة كما أتصور للبحث عن اجابات تتعلق بكشف جانب كبير من الغموض الذي يلف مستقبل عالمنا وحياتنا كبشر، خصوصا ونحن نعيش في عالم تحكمه الفوضى والحروب، ويهيمن عليه قادة جشعون وتوجهات مخيفة ومصالح عمياء.
في بلدي اليمن حرب متواصلة منذ ثلاث سنوات بدأها تحالف الانقلابيين الحوثيين والرئيس المخلوع المدعوم من إيران، حرب يرعاها قادة العالم، وأتكلم تحديدا عن دونالد ترامب الذي ذهب إلى الرياض ليقدم لها تفويضا مفتوحا في اليمن لتواصل رعاية الفوضى والحرب باسم مساندة الشرعية والدولة اليمنية مع أنها تحتجز الرئيس الشرعي وتمنعه من العودة وتدعم الميليشيات الانفصالية والمتطرفة لتحل بديلا عن الدولة والحكومة الشرعية في المناطق المحررة من تحالف الإنقلابيين الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع.
إن عالما يقف على قمة دولته الأكبر رجلا مثل دونالد ترامب لهو عالم مخيف وغير آمن، يتفاوض ترامب مع ملك السعودية وولي عهده محمد بن سلمان الشاب الطامح بكرسي الملك على مئات المليارات مقابل دعم انتقال للسلطة داخل أسرة مالكة يفترض ان تكون شأنا سعوديا داخليا.
الحماقة التي تجلس على كرسي أكبر دولة في العالم تخلق أشباهها من الحكام والتوجهات والسياسات. يدير محمد بن سلمان حربا في اليمن منذ ثلاث سنوات يعتقد على نطاق واسع أنه مع ولي عهد الإمارات محمد بن زايد قد خلقا شروطها بتواطؤهم مع الميليشيات الحوثية لإسقاط الدولة في 2014 تحت تأثير توجهات محور ابوظبي الرياض المعادي للربيع العربي وتوجهاته لتحويل عواصم البلدان التي شهدت ثورات شعبية الى ساحة حرب لاستعادة النظام الرسمي العربي السيطرة التي اهتزت بفعل الانتفاضات الشعبية.
المغامرة والاندفاع الأحمق سمات مشتركة بين دونالد ترامب ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايد. اتحدث عن امتداد النموذج الترامبي في منطقتي وما يؤثر وما يزال على بلدي اليمن.
إلى جانب المزاج الأحمق والمغامر هذا، هناك نموذج القيادة الأيديولوجية الدينية الذي تتولد حماقاته ومغامراته بفعل المعتقدات المذهبية المتطرفة ومركز هذه القيادة هو علي خامنئي الجالس على كرسي المرشد في ايران الذي يدير نظامه شبكة من التنظيمات الميليشياوية تمتد من العراق الى سوريا ولبنان واليمن، ولديها أمراء حرب متماثلين يتم صناعتهم بنفس المواصفات والتفكير والتوجهات.
القيادة الإيرانية ليست جديدة في ما يتعلق بنشر الفوضى، فقد بدأت في نهاية السبعينيات تحاول بناء مجد زائف على حساب محيطها الاقليمي وجيرانها، ولكن توسعها انتظر الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003 ليملأ الفراغ هناك. وكانت الفترة الانتقالية بعد ثورات الربيع العربي هي المحطة الثانية لهذا التوسع في النفوذ والسيطرة.
الشرق الاوسط اليوم ساحة لمعركة كبرى تخوضها إيران من طرف واحد. وحتى تكتمل أسباب مواجهة ايران ستأتي "اميركا الترامبية" لإضافة معركتها الخاصة فوق الشعوب المشتتة والمقطعة الأوصال.
في أميركا اليوم دونالد ترامب. ودونالد ترامب يعني سياسة عنصرية ضد المهاجرين وشعوب العالم، ومصالح عمياء وخرساء ومجردة حتى من الدبلوماسية وادعاءات الديمقراطية والحرية والحقوق والحريات.
في الجهة المقابلة سوف نشاهد فلادمير بوتين الديكتاتور الذي وجد الفوضى العالمية مناسبة لطموحه القيصري الإمبراطوري، فهو يقصف في سوريا ويطلق الصواريخ النووية بقبضة يده، تغمره نشوة بدائية كان العالم يراها تاريخا طوي مع هتلر وستالين وقنابل أميركا فوق هيروشيما ناكازاكي والعالم القديم.
العالم الذي كان ينظر لبوتين كنموذج لديكتاتور جديد بديمقراطية مسيطر عليها لم يعد يُرى في ذلك استثناء.
الديمقراطيات العالمية الكبرى أصبحت ساحات لحركات عنصرية ضد مواطنيها من أصول اخرى وسياسات تمييزية. اغلقت الأبواب امام المهاجرين في عالم تفتح فيه الأبواب على مصراعيها للبضائع والسلع والأسلحة وأدوات الموت والربح والتجارة العالمية.
وحدها كندا كانت استثناء عن موجة الكراهية العالمية ضد المهاجرين واللاجئين. وبجانبها المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل الى ما قبل ايقاف حركتها وتوجهاتها المتميزة نسبيا عن بقية دول أوربا التي اغلقت ابوابها الانسانية امام بشر نزحوا من بلدان تعاني من الحروب وانهيار الدولة والصراعات الإقليمية والعالمية التي تدار على ساحاتها.
لا تتخيلوا إلى أي مدى تصل رسالتكم في كندا. لا يقف الأمر عند من يحتضنهم هذا البلد الكريم والانساني كمهاجرين او نازحين أو لاجئين او عمالا او من يدمجهم في المجتمع الكندي ويمنحون الجنسية الكندية.
حدود هذه السياسات يذهب بعيدا ليبقي شعلة الأمل بعالم انساني متضامن ومتكافل متوهجة ومضيئة.
إن التوجهات الانعزالية التي صعدت الى ذروتها في اميركا ومعظم بلدان أوربا ليست سوى البداية في عالم مضطرب يشهد تحولات وتهديدات تتسع يوما بعد يوم، ولن تقف عند حد، ما لم تتغير الأفكار والسياسات والتوجهات العالمية.
في كندا نرى تجسيداً لهذه التوجهات التي نأمل بها كبشر يتطلعون لعالم انساني يستحق هذه الصفة. وهي توجهات وسياسات أراها لصيقة بهذا البلد وليست حالة مؤقتة مرتبطة بتوجهات قادتها الحاليين المنتخبين، ذلك انهم يعدون تعبيرا عن توجهات ثابتة كما يلاحظها العالم المتابع لبلدكم وسياساتها والمهتم بأحوالها وأخبارها.
اعزائي عزيزاتي:
في بلداننا العربية كانت الثورات الشعبية في 2011 لحظة ميلاد جديد. غير أن قادة هذا العالم والصراعات الإقليمية التي تدار برعايتهم، حولوا لحظة الميلاد إلى موت بالجملة ويتجول مثل وحش ضخم وكاسر من بلد إلى اخر ومن مدينة إلى مدينة.
هذا الموت بالجملة في موصل العراق ومدنه ليس حالة خاصة معزولة عن تدمير هذا البلد العربي بالاحتلال الاميركي الذي سلمه لاحتلال إيراني يدار عبر الميليشيات الطائفية، ميليشيات شيعية بمئات الألاف تنتقل من ساحة حرب إلى أخرى ولن تقف عند حد من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن والباب مفتوحا، مع حرب إقليمية متتالية الفصول، وخلقت فراغا امامها تملأه التنظيمات الارهابية العابرة للحدود والقارات مثل داعش وتنظيم القاعدة.
هذه الحروب في اليمن وسوريا وليبيا تخاض ضد تطلعات شعوب هذه البلدان التي عبرت عنها في ثورات 2011 بطموحها للتغيير الديمقراطي ودولة قانون وحقوق وحريات وفرص عمل ومواطنة متساوية. تختلف العناوين والمسميات غير أن مضمون الحرب هو هذا لا غيره.
الاصدقاء الأعزاء:
لم يعد أحد من قادة العالم يتحدث عن الديمقراطية. وعلى طاولة الرؤساء وديبلوماسية "العالم الحر" لا مكان للكلام عن الحقوق والحريات والانتهاكات التي تطورت إلى حالة جماعية.
الآلاف يقتلون، ويجد هذا العالم بقادته ودوله العظمى وديمقراطياته الكبرى تفسيرات جاهزة تسدل ستارا من التعتيم واللامبالاة، بتصنيفها كحرب مكافحة الارهاب احيانا، والاقتتالات والحروب الأهلية التي تلقى الاهتمام لبعض الوقت ثم تدخل في الظلام بعيدا عن الاعلام وعن أي جهد عالمي جاد يساهم في وضع حد للموت اليومي ومعاناة مجتمعات وشعوب بأكملها.
الأصدقاء الأعزاء:
الفوضى تقود عالم اليوم. وما دونالد ترامب وبوتين وكوريا الشمالية والإرهاب العالمي والعنصريات الصاعدة سوى مسميات متعددة لهذه الفوضى.
تخيلوا ما الذي سيحدث لو ان رئيسا مثل هذا الذي يحكم في كوريا قد قرر في لحظة جنون أن يضغط على الزر النووي؟!
ولماذا نذهب بعيدا، انظروا الى ترامب وما الذي يمكن للمرء أن يتوقعه منه في السنوات الثلاث داخل البيت الأبيض؟!
ان كثيرين في هذا العالم اصبحوا يرون في القيادة الصينية حالة معقولة تستحق الإعجاب. ليس نتيجة النمو والاستقرار الذي تحققه الصين وحسب، وإنما نتيجة العقلانية والنضج في عالم يتجه نحو جنون القادة وجنوح السياسات.
لم يعد كثيرون يتساءلون عن النموذج الديمقراطي ويقيسون وفقه أشكال الأنظمة السياسية في العالم، فقد كانت الديمقراطيات الكبرى أول من يقذف بالمعايير الديمقراطية في سياساتها الدولية إلى الهامش والنقطة العاشرة.
مع ذلك، لن تكون الصين هي منقذ أميركا من مأزق كوريا وسلوكها غير القابل للتوقع. ومن المناسب ان نؤكد هنا ان مشكلة العالم ليس رئيس كوريا، وإن كان أحد أعراضها. إن مشكلة العالم هي انه محكوم بالفوضى وادارة الحروب والصراعات. أن الدول الكبرى المهيمنة عليه لا ترى سوى مصالحها وبأي ثمن.
لن يكون بمقدور رئيس وزراء فرنسا ان يغير توجهات عالمية في بلده وفي أوربا والغرب عموما. في ظل بقاء السياسات الاساسية في فرنسا حيال اللاجئين والمهاجرين والنزاعات العالمية المتفجرة حروبا في الشرق الاوسط.
تبدو أوربا عاجزة عن تقديم نموذج مكتمل يلهم العالم. لا كدول ولا كتكتل سياسي افتقد بريقه قبل أن يكتمل ولم يعد قادرا على تقديم شيء في ظل تراجع سقف الطموحات حول دوره في المستقبل.
الاصدقاء الأعزاء:
العالم يعيش تحولات تهدد الجميع والصورة مشوشة ومقلقة. هذا ما نشعر به كلما نظرنا الى نماذج القيادات العالمية من ترامب الى بوتين ومن علي خامنئي وبشار الأسد الى محمد بن سلمان ورئيس كوريا الشمالية.
غير أننا كلما تصفحنا التاريخ عدنا بإيمان متجدد أن الحماقات العنصرية والتطرف وأوهام السيطرة الامبراطورية والإرهاب آفاقها مسدودة وقصيرة. لا يبقى سوى الحلم الإنساني بغد افضل.
خلفنا نقلات كبيرة شهدتها البشرية، ولن تكون هذه الردة العالمية سوى حالة عارضة. البقع السوداء أمامنا تتسع وتثير الخوف، غير أنها لن تكون اكبر ولا اكثر قدرة من تلك التي واجهتها البشرية وعجزت في النهاية عن تلوين الحياة كلها بلونها الأسود.
ولنأمل من جديد بإمكانية تخلق عالم انساني يضمنا جميعا، عالم سنبنيه معا كبشر احرار لا تفصل بيننا حواجز اللون والعرق والمعتقد والهوية ولا تكبلنا فيه المصالح العمياء والمتوحشة للدول والكيانات السياسية المتنافسة على السيطرة والإخضاع.
اليوم، العالم لا يبدو انه بخير، هناك الكثير من السياسيين الذين ينشرون الكراهية ثم يسألون لماذا يحدث، ما يحدث؟...
أعتقد أن الوقت حان، لمواجهة العنصريين وحماقتهم، والمستبدين وجرائمهم، عليهم أن يدركوا أن ما يقومون به ليس عملا بطوليا أو وطنيا.
اعرف ان هناك من تستهويه الزعامات الخشبية، لكني أرى وأظن عدد كبير منكم يشاطرني الرأي أننا لسنا بحاجة لمتطرفين يقودون العالم، فهذا كفيل بإشعال النار في كل أركانه.
نحتاج إلى قادة يساهمون في تطوير بلدانهم وقيادتها نحو الديمقراطية والانصاف والتسامح، كلما اقتربنا من هذه المثل، نكون في الجانب الصحيح من التاريخ.