كلمات
كلمة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان في مؤتمر الفاو والاتحاد الأوربي - بروكسل
الاصدقاء والصديقات الاعزاء المشاركين في الملتقى الدولي لإطلاق التقرير العالمي حول أزمات الغذاء 2019.. أحيي جهودكم النبيلة التي أثمرت هذا الملتقى العالمي الذي يمثل محطة هامة في حشد الجهود العالمية وتنسيقها في شبكة عالمية
هدفها التصدي للأزمات الغذائية والبحث في كل السبل المتاحة لتنسيق هذه الجهود وتنظيمها والدفع بها إلى مستويات أكثر فاعلية وتأثيرات في هذا المجال الذي يجمع بين الجانب البحثي والدراسات والتقارير التوصيفية للحلول والسياسات، والمبادرات التنفيذية العملية على مستوى العالم.
أعزائي عزيزاتي:
يتواجد معنا في هذا الملتقى العالمي عدد من الاصدقاء وهم متخصصون في مجالات لها علاقة بأزمات الغذاء العالمية، ومن تخصصات متعددة واهتمامات مختلفة، وسنستمع لهم بالتأكيد، غير ان أزمات الغذاء العالمية ليست روتينية ولا اعتيادية ولن يكون ممكنا فهمها دون النظرة الواسعة التي تدرك تشابكاتها مع السياسات العالمية والنظام العالمي والتوجهات والمصالح الاقتصادية العالمية التي تمثل أزمات الغذاء والمجاعات التي يتعرض لها البشر في عالم اليوم اخر همومها.
العالم يعاني من أزمة الغذاء وعلى الأقل ليس هذا جذر أزمات الجوع وإنعدام الغذاء والمجاعات التي وصلت الى مستويات قياسية العام الماضي، وما يجعله كذلك هو افتقاده للعدالة والديمقراطية والإدارة الرشيدة.
ملايين البشر في عالم اليوم لايجدون مايأكلون، ومن يقول لهؤلاء الذين لا يجدون مايسد رمقهم إن مشكلتهم تكمن فقط في زيادة السكان هو يوجه لهم اللوم ويقول لهم إن وجودهم هو ذنبهم في عالم لا يرحم. هذا أذىً نفسي وترف فج يصدر عن افتقار لروح التعاطف الإنساني، فوق أنه ليس منطقيا ولا صحيحا، على الأقل في السياق الذي يقال فيه، في توقيت مختلف عن تزامن أزمات الغذاء مع الأزمات الحادة الناتجة عن الاستبداد السياسي والديكتاتوريات التي أهدرت موارد شعوبها، والحروب، وسيطرة أقلية صغيرة على الاقتصاد العالمي ووجود هيمنة لمصالح الدول الكبرى تحدد شكل عالم اليوم، سيكون منطقيا ومقبولا التركيز على العوامل الديموغرافية مثل زيادة السكان واستنزاف الاراضي الزراعية وتدهور التربة وتغيرات المناخ ونزوح السكان الى المدن وشحة الموارد والإمكانيات وبقية مصفوفة العوامل المؤثرة في أزمات الغذاء العالمي.
غير ان استدعاء هذه المصفوفة من الأسباب بلغة أكاديمية وتخصصية في وجه ملايين من الناس وجدوا انفسهم في العراء بدون مأوى ولا غذاء ولا مصدر للدخل بسبب انهيار الدولة وحرب المستأثرين بالسلطة ضدهم، هذا سينظر له كسلوك عدائي ناعم يلقي باللائمة على الضحايا ويقول لهم إن هذه هي الحياة الممكنة. ان جوعهم حالة طبيعية وان وراءه عوامل طبيعية خارجة عن السيطرة، او تحتاج الى عمل روتيني بطيء للتأثير فيها ريثما يكون الجوعى قد أنهكوا وسحقت آدميتهم وتوزعوا بين المقابر وأحزمة الجوع حول مدن الصفيح وطرقات الموت اليوم داخل مدن تحولت الى معازل كبرى للبشر.
بالتأكيد توجد مبادرات عالمية رائدة في مجال التصدي لأزمات الغذاء، وشبكة عالمية من المنظمات والشخصيات العالمية والفاعلين المتنوعين تعمل في هذا الحقل الإنساني ولقاؤنا هنا يقع في إطار هذا التشابك العالمي الذي يضع أزمات الغذاء مجالاً لإهتماماته وفعاليته، واستمرارية هذه الشبكة العالمية للتصدي لأزمة الغذاء العالمي هو نقطة الإرتكاز لتصورات تطويرها وتوسيعها.
من المهم التاكيد على أهمية ما تحقق من اغاثة عالمية وتقديم المعونات الغذائية لملايين المستفيدين في مناطق الأزمات، وتطوير هذه الشبكة العالمية لتقديم العون الإنساني.
مع ذلك فإن رؤية واسعة لأزمات الغذاء ستجد انها بحاجة للبحث في أسباب الأزمات الغذائية المؤثرة بحدة وأدت الى حدوث انهيار في منظومات الدولة والخدمات وقطاعات الاعمال في مناطق النزاع التي وجد سكانها انفسهم امام مشكلات مركبة، الافتقار للغذاء هو واحد منها وأكثرها الحاحا في استدعاء تدابير المواجهة والتصدي لآثاره.
إن انهيار الدولة يقذف بملايين البشر الى العراء ليواجهوا مصيرهم مجردين من كل حماية. المعونات ليست حلا ولكنها في حالات سقوط الدول والحرب وانتشار المجاعة تمثل واجبا انسانيا دوليا. والعمل على إنهاء النزاعات وعودة الاستقرار وحكم القانون اتجاه أساسي يحتاج الى أن يتكامل مع الجانب الإنساني جنبا الى جنبا وأن لا يكون حضور احدهما مغيّبا للاخر.
الأصدقاء والصديقات:
أنتمي لليمن ، البلد الذي يمر بأسوأ أزمة غذائية في عالم اليوم. وسيكون عليَّ ان انقل لكم تجربتنا في اليمن وما يعانيه شعبنا من أزمة معيشية بعد أربع سنوات من الحرب.
حالنا هو نموذج لتجارب مريرة في أكثر من بلد عربي انهارت فيه الدولة بفعل ممانعة أنظمة مستبدة أمام مطالب التغيير الديمقراطي التي تطورت الى ثورات شعبية قبل ثمان سنوات. لقد واجهنا تحديا لوح فيه المستبد في بداية ثورتنا المتطلعة للديمقراطية في فبراير 2011 بتهديد واضح إذ خطب يقول: إن التغيير سيؤدي إلى الصوملة! مهددا شعبه بمصير دولة الصومال التي انهارت في بداية التسعينات من القرن العشرين ودخلت في اقتتال اهلي ومجاعة قبل ان تبدأ بالتعافي مؤخرا.
هذا تهديد واضح يقدم الإستقرار والرضوخ للديكتاتورية مقابل لقمة العيش للناس. وقد كان هذا حال الانظمة المستبدة كلها: إما الاستقرار وإما الديمقراطية. لكننا نقول ان الديمقراطية والاستقرار وتوفير الأمن الغذائي للمجتمع مرتبطة ببعضها.
ما يحدث من حروب في اليمن وبلدان الربيع العربي هو انتقام من الشعوب التي طالبت بالديمقراطية فانتقموا منها بإغراقها بالعنف والجوع. تعيش اليمن منذ اربع سنوات حربا مدمرة تدخل فيها التحالف السعودي الإماراتي بمبرر مساندة الشرعية لاستعادة الدولة، لكنه عمل مع الانقلاب الداخلي على تحويل اليمن الى بلد مدمر ويعيش سكانه اسوأ أزمة إنسانية في العالم.
إننا على يقين ان مواجهة الأزمة الانسانية في اليمن لاينفصل عن مساندتنا في تطلعاتنا للديمقراطية ودولة القانون التي تمثل هدف ثورة 11 فبراير.
دعم العالم المتحضر للانظمة المستبدة يجب ان يتوقف. هذه الانطمة لا تضمن الاستقرار ولكنها تغذيه بأسباب الانفجار، وقد رأينا ذلك واضحا بعد عقود من حكم الديكتاتوريات في منطقتنا العربية.
الاصدقاء والصديقات..
تجاربنا تقول إن الاستبداد قد صادر علينا الديمقراطية والتنمية معا.
الاستيلاء على السلطة واحتكارها أفقر مجتمعاتنا واهدر مواردها.
تجاربنا القاسية تزيد من إيماننا بالديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورتها وإستحالة العيش بدونها.
مصادرة الحق في الحصول على لقمة عيش كريمة كان حاضرا بقوة في منظومات الإستبداد في بلدان الربيع العربي.
تحولت الإنتخابات والديمقراطية والأحزاب إلى كلمات مفرغة من معانيها.
تم اختراق الإعلام وتفريخ الأحزاب وتشكيل منظمات حقوقية موازية تعمل تحت عنوان المدنية بينما تخدم الاستبداد وسياساته لاحتواء التعددات الشكلية واستمرار التحكم بالسلطة والدولة والثروة والقوة والنفوذ بمسميات حديثة مفرغة من مضامينها.
ووصلت الانظمة المستبدة ومعها مجتمعاتها الى طريق مسدود. وكانت ثورات الشعوب نتيجة طبيعية لفشل الإنتقال المرن والمتدرج نحو الديمقراطية ونتيجة لفشل التنمية والافتقار لدولة قانون ونظام ديمقراطي مشكلة لاتنفصل عن مشكلة الفقر وازمات الغذاء.
الديكتاتورية لم تنجز شيئا. وبقيت الرتوش الديمقراطية شكلا فارغا وغطاءً لاستبداد مقنع يورث الجمهوريات ولا يحقق تنمية ولم يقدم تعليما حديثا للشعوب ولا بنى تحتية للاقتصاد، ولم ينتج عنه سوى إفقار الغالبية العظمى من الشعوب ورميها في قاع الفقر ومدن الصفيح ومستويات مادون الفقر والجوع والافتقار للمأوى والسكن وكل متطلبات العيش الكريم في حده الأدنى
أعزائي عزيزاتي:
ختاما اقول لكم؛ إننا في اليمن بالقدر الذي نحتاج فيه لمساندة العالم في تقديم المعونات الغذائية لمواجهة خطر المجاعة، نحتاج بنفس القدر الى مساندة تمكننا من انهاء الحرب واستعادة الدولة لاستكمال عملية الانتقال الديمقراطي.
وبدون ان ينظر العالم الى أساس المشكلة اليمنية واسبابها، ستؤدي النظرة الاحادية الى اختزال مشكلتنا بالمعونات الانسانية، وهو تصور يغذي أسباب الأزمة الغذائية بكل ما تحتاجه للتحول الى مجاعة مستدامة تهدد مزيدا من السكان بالموت جوعاً.
الجوع والأزمات الغذائية تزيد من إيماننا بالديمقراطية وحقوق الإنسان رغم أن المستبدون أساءوا اليها وحاولوا ان يقدمونها كعناوين لا تمس حياة الناس ولا توقف عبث منتهكي حقوقهم والمتحكمين بالقيود المفروضة على حقهم في لقمة العيش الكريمة والمشاركة والتعبير وتقرير نوع حياتهم والحكومات التي تتولى شؤونهم، وما ثورات الربيع العربي التي ارتطمت باستبداد متشابك محليا واقليميا وعالميا إلا صيحة كبرى في هذا التطلع للعيش في ظل دول ديمقراطية تحترم شعوبها وتخدمهم وتلبي احتياجاتهم الضرورية وترتقي بمستوى حياتهم وتقر بأن المواطن هو مصدر السلطة ومن يقرر مصيرها وله الحق في الحصول على فرصة عمل وخدمات صحية وطبية ومعرفة كيف تدار المؤسسات العامة وكل ما له صلة بالشأن العام وكيف تتخذ القرارات وما تستند عليه من معايير ومعلومات ومفاضلات تتعلق بحياته ومصيره.
أحييكم جميعا وأُحيي جهودكم الانسانية النبيلة للتصدي لازمات الغذاء العالمية ، من أجل عالم متكافل ومتضامن وأكثر تجسيدا للقيم الانسانية.