كلمات
كلمة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان في مؤسسة نوبل بعنوان "عصر الربيع العربي يأبى الافول " – السويد
في البداية أود أن أعبر عن سعادتي بوجودي بينكم اليوم، وما يضاعف من سعادتي أني سوف اتحدث عن ثورات الربيع العربي. خلال الثلاث الأعوام الأخيرة وفي أثناء صعود قوى الثورة المضادة في بلدان الربيع، وتمكنها من استعادة السيطرة على مقاليد السلطة، انبرى البعض بسوء أو بحسن نية لنعي الربيع، والقول إنه مات وانتهى إلى الأبد.
في المقابل، كنت وآخرون نعتقد أن الربيع لم يمت، ولن يموت، وطالما أكدنا أن الربيع العربي وجد ليبقى وينتصر، ففي النهاية، ليس أمام الشعوب العربية إلا الانتصار لحريتها وحكم القانون، كنا ندرك وما نزال صعوبة بقاء الأوضاع التي سادت قبل عام 2011.
الأصدقاء الأعزاء..
على مدى السنوات الماضية، قادت قوى الثورة المضادة حملة متواصلة لتشويه الربيع العربي، واتهام الثوار بأنهم جزء من مخطط غربي كافر إسرائيلي مسيحي صليبي إيراني إسلامي متطرف إرهابي، لتخريب الاستقرار في الدول العربية، ورغم هشاشة هذه الاتهامات وسخافتها، إلا أنها تردد على لسان بعض المثقفين ورجال الدين الذين ارتضوا أن يكونوا ابواقا للأنظمة المستبدة. من المؤسف حقا، أن يتحول بعض المثقفين ورجال الدين الذين كانوا يقدمون أنفسهم باعتبارهم مدافعين عن حقوق الإنسان والحرية إلى مجرد أدوات رخيصة وأصوات لدعم الديكتاتورية والتسلط السياسي.
بعد نحو ثمان سنوات من تشويه صورة الربيع العربي، وضخ كثير من الأكاذيب، والقيام بقمع الأصوات الثورية، والزج بها في المعتقلات، ومصادرة حرية التعبير، لا يزال الربيع العربي يمثل الهاما لشعوبنا العربية، لقد باءت خططهم بالفشل، كانوا مخطئين في اعتقادهم بأنهم قادرين على خداع الناس، والتلاعب بمشاعرهم.
إلى جانب هذا الصنف من الكارهين للربيع العربي، والذين يعبرون عن كراهيتهم بكل وضوح، فإن هناك صنف آخر، لا يقل بشاعة عن الصنف السابق، يدعي دعم الربيع العربي، لكنه في الحقيقة يسعى لفرض رغباته وقناعاته على الناس، وإلا فإن هناك مؤامرة على الوطن، ولذلك شهدنا كيف انقلبت بعض القوى على الديمقراطية لمجرد أن المختلف معها تمكن من الفوز في الانتخابات.
إن أبسط قواعد الديمقراطية أن تقبل بحكم الشعب، ونتائج الانتخابات، وبوجود منافسين لمشروعك السياسي والاقتصادي، وأن لا تعتبر تعدد الآراء دليل ضعف، بل دليل قوة. إن دولة الصوت الواحد والقائد الضرورة هي دولة الظلم والمعتقلات والفساد والاستبداد.
الأصدقاء الأعزاء..
لقد تعرضت ثورات الربيع العربي لحرب مدمرة من قبل قوى الثورات المضادة التي أرادت إعادة عقارب الساعة للوراء، فالعرب أمة لا تستحق الديمقراطية أو الحرية، أو المواطنة الحقة، هذا ما يعلنوه من خلال منابرهم المختلفة. لقد تمكنوا من وأد الديمقراطية في مصر من خلال انقلاب عسكري معاد للقيم المدنية، وتمكنوا من إدخال اليمن في أتون حرب أهلية من خلال دعم انقلاب فاشي بقيادة جماعة معادية للقيم الديمقراطية ومبدأ المواطنة، وتمكنوا من إدخال الثورة السورية في مسار عنف قاتم، من خلال دعم جماعات إرهابية، وعقد صفقات مع نظام بشار الأسد الإرهابي، وقاموا بضخ الأموال الطائلة لمحاصرة أي تحركات شعبية في العديد من الدول العربية التي تعاني من تفشي الفساد والاستبداد.
لكن هذا المسار الظلامي الذي تقوده عواصم الثورة المضادة، بالتواطؤ مع الحكومات الغربية التي تنازلت عن مبادئها في دعم الحركات الديمقراطية ورفض انتهاكات حقوق الإنسان، يواجه ظروف صعبة وضربات متتالية، فمع الاحتجاجات والثورات الشعبية التي بدأت من السودان والجزائر، مرورا بالعراق ولبنان، يمكن القول إن رهان البعض على موت الربيع العربي هو رهان خاسر.
إن ما يحدث اليوم من تحركات شعبية في العديد من الدول العربية لا يمكن إلا أن يكون موجة ثانية من ثورات الربيع العربي. هذا ما أومن به، وعلى الصعيد الشخصي لديّ أصدقاء من تلك الدول تشاركنا على مدى السنوات الماضية تطلعات بأن تكون أوطاننا واحات للحرية والتطور، يشاركون بكل قوة في المظاهرات التي تدعو لإسقاط أنظمة الفساد والمحسوبيات والقمع، فتيحة إجلال لهم، ولكل ثائر وثائرة في الجزائر والسودان والعراق ولبنان، الذين قدموا ولا يزالوا يقدمون دورسا في البطولة ومناهضة الفاسدين والديكتاتورية.
خلال الفترة الماضية، استمعت إلى تحليلات وأقوال تشكك في الثورات الشعبية، خصوصا في العراق ولبنان. تزعم تلك الدعاوى أن أمريكا تارة وأن السعودية والامارات تارة أخرى يقفون وراء تلك الثورات. ربما يكون لدى هذه الدول مصلحة في حصول تغيير في العراق ولبنان، وربما لديهم مصلحة في التغيير الذي حصل في السودان، لكن هذه المصلحة بالقطع ليست مصلحة الشعوب الثائرة، ولذلك، ستعمل تلك الدول على التآمر على ثورات العراقيين واللبنانيين والسودانيين والجزائريين، لكن هل الحل الانصياع للأنظمة الفاسدة التي يقودها ويحركها ملالي طهران؟. بالطبع لا. إن ما تقوم به مليشيات إيران السياسية والعسكرية خطير ومروع، ويجب أن يتوقف العبث الذي يحدث من قبل دولة الحرس الثوري والملالي. باعتقادي لا يجب الخوف ترحيب دول الثورات المضادة بالموجة الثانية من الربيع العربي، ففي النهاية الذين خرجوا للشارع يريدون الحرية ويريدون الديمقراطية ويريدون المساواة، وهي القيم التي تعاديها تلك الدول. أؤكد لكم، أن وعي الثوار أكبر من كل ترهلات وأكاذيب دول الثورة المضادة سواء كانت السعودية أو الامارات أو ايران، أو نظام السيسي، أو ملبيشيا الحوثي.
الأصدقاء الأعزاء..
ما حدث في إيران من تحركات شعبية الشهر الماضي، والطريقة التي تعامل بها النظام الإيراني تجاه المحتجين السلميين، يؤكد أن الربيع العربي أكبر من أن يتم احتواؤه، وأن أصوات التحرر من اغلال الديكتاتورية التي بدأت في السطوع مع 2011 ما تزال قادرة على أن تكون ملهمة على المستوى العالمي، وليس العربي فقط. لقد أعلن النظام الإيراني انتصار إيران وهزيمة الأعداء، من هم الأعداء الذين تمت هزيمتهم؟، هم الشعب الإيراني الذي يريد الانعتاق من جبروت حكم الملالي. هكذا تنظر الأنظمة المستبدة إلى أحلام وتطلعات الشعوب بالحرية والكرامة الإنسانية.
غدا سوف ينتفض الشعب الإيراني من جديد، وينهي سلطة الحرس الثوري على حياته، وغدا سيصل الربيع العربي إلى السعودية والامارات، وكل دول العالم العربي، من حق شعوب المنطقة العيش أن تعيش مثل الشعوب الأوروبية دون أن تتعرض للتسلط أو للانتهاكات.
لقد أنهت الموجة الثانية من الربيع العربي ما كان تردده قوى الثورة المضادة من أن احتجاجات الناس ومطالبتهم بالتغيير هي مؤامرة خارجية، لقد اسقط الثوار في السودان والجزائر ولبنان والعراق كل تلك الأكاذيب، الناس لم تعد تقبل باستمرار انحرافات حكومات وأنظمة منفلتة وفاسدة مسلوبة الإرادة، ومحمية بقوى خارجية.
الأصدقاء الأعزاء..
إن الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي لا تواجه أنظمة فاسدة وحسب، بل تواجه أنظمة طائفية، تعرف كيف تستثمر التناقضات الطائفية لكي تستمر في الدفاع عن نفسها، لذا يجب توخي الحذر تجاه تحركاتها التي تهدف لإثارة النعرات الطائفية وتقسيم الشعب من أجل أن تبقى في السلطة.
إن المعركة مع الفاسدين والطائفيين والمستبدين هي معركة الربيع العربي في موجته الأولى وموجته الثانية وموجته الثالثة، نعم، سيظل الربيع العربي حاضرا في وجدان الشعوب العربية، ومن لم يثر اليوم، سوف يثور في الغد، الموضوع هو أن نتحرر من اغلال الداخل والخارج، الموضوع أن نتحرر من سلطة الفساد والديكتاتوريات وسلطة العسكر والميليشيات المسلحة، مهما كان الثمن.
في عام 2011 عندما خطى الربيع العربي أولى خطواته نحو الحرية انطلاقا من تونس، اعتقد البعض أن ما حدث سينتهي في تونس نفسها، لكن ما حدث كان أكبر مما توقعاتهم، فشهدت مصر واليمن وسوريا وليبيا، ودول أخرى ثورات واحتجاجات عظيمة تم ضرب بعضها، والتآمر على بعضها، ولم تنجو سوى تونس التي أبارك لها استمرار تقدم ديمقراطيتها وانتخاب برلمان ورئيس جديدين. اليوم، يعاود الربيع العربي انبعاثة جديدة، وعهد جديد. أهم شيء تحقق بعد تسع سنوات من ميلاد الربيع العربي أن العالم العربي لم يعد مكانا آمنا للمستبدين.