كلمات
كلمة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي للاجئين الذي تنظمه مؤسسة "Pilosio" في مدينة ميونيخ - ألمانيا
كما لو ان الزمن قد استدار، كما لو أن التاريخ يعود للخلف، كما لو أن العالم يتراجع للوراء ويفتح اسوأ ملفاته على الإطلاق. ذات الصور التي شهدها العالم في الحرب العالمية الثانية نشاهدها اليوم، الفارق اليوم أن دقة الصورة صارت أعلى وتقاصيلها أكثر وضوحا.
"ما رأيناه مروع، لم تكن هناك حياة. كل شيء كان هادئا للغاية. تقول تقارير جديرة بالصدقية ان عدداً من الاشخاص قضوا جوعاً. ما رأيناه في مضايا لا يقارن بمناطق أخرى من سوريا".
هكذا عبَّر ممثل رئيس المفوضية في سوريا، سجَّاد مالك عندما شاهد الأطفال والعائلات التي كانت تنتظر وصول المساعدات في بلدة مضايا.
وهذا فقط أحد الشهود في أحد المناطق وفي لحظة تتكرر كل يوم بشكل أكثر بشاعة.
كتا نقرأ تاريخ الحرب التي أكلت شعوب أوروبا وغيرت ملامح العالم، كنا نسمع عن أرقام القتلى وأرقام المشردين وأرقام المبعدين لكنا اليوم نعيش ذات اللحظات بتفاصيلها الكاملة، نعيش اليوم مع مايزيد عن خمسين مليونا من اللاجئين والمهجرين والتائهين بلا عناوين.
يهربون من الموت إلى الموت عبر طريق الموت، يالها من رحلة تبدأ بالمغامرة وتنتهي غالبا بالتيه او الفقدان أو الإهانة أو الموت.
يالها من رحلة يعبر فيها اللاجئون عبر كل متاعب العصور وكل متاعب الفصول وكل متاعب الطريق وكل متاعب البعد ومتاعب الهوية ومتاعب عائلة تضع كل حياتها على فوهة الريح وتغادر في طريق المستحيل.
لم تعد مشكلة اللاجئين شيئا على الهامش، فحينما تأسست المفوضية العامة للاجئين جاءت لتحل مشكلة أقل من مليون ونصف المليون لاجئ تركتهم الحرب العالمية الثانية بلا أوطان ولا هوية.
أما اليوم فإن قضية اللاجئين أضحت تشكل شعوبا بكاملها، شعوب بكاملها اليوم تعيش في العراء، يموتون في البرد القارس ويموتون في الحر اللاهب، يموتون على ظهر البحر وفي بطن الصحراء ، يموتون في الظلام وأمام الكاميرات الدقيقة، والذين يعيشون يعيشون مع الموت كما لو أنه معلق على أهدابهم.
مع بداية عام 2016، تستمر معاناة الملايين من السوريين الذين يتواجدون في سوريا ودول الجوار إذ يتواجد حالياً أكثر من 4.5 مليون لاجئ سوري في البلدان المجاورة وأيضاً ما يقرب من 4.5 مليون شخص نازح في سوريا يعيشون في مناطق يصعب الوصول إليها.
وفقا لمسؤولين في إقليم كردستان العراق، فر أكثر من 45 ألف عراقي إلى المنطقة هربا من المجموعات المسلحة التي استولت مؤخرا على سنجار وموقعين آخرين. وبذلك بات كردستان العراق موطنا لأكثر من 300 ألف نازح عراقي. منذ مطلع العام بلغ عدد النازحين العراقيين ١.٢ مليون شخص في كافة أنحاء العراق قبل ذلك تعرض ملايين العراقيين الى اللجوء والنزوح الداخلي منذ بداية االاحتلال الامريكي للعراق ولا يزال العدد مرشح للتهجير والنزوح مع ازدياد العنف وحدة الصراع.
عبر أكثر من 320 ألف شخص البحر المتوسط منذ بداية العام الحالي في رحلة محفوفة بالمخاطر بدأوها من سوريا والعراق وأفغانستان والسودان وغيرها من البلدان التي تمزقها الحروب والكثير من المآسي الانسانية.
تقول الأمم المتحدة إن 2400 مهاجراً غرقوا وهم يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط، من أجل الوصول إلى أوروبا حتى الآن هذه السنة.
ونزح نحو 13,9 مليون شخص، أي ما يعادل عدد سكان لندن، بسبب الحروب أو الاضطهاد أو القمع خلال 2014، ونزح نحو 38 مليون شخص في الداخل، ولجأ نحو 20 مليون شخص إلى الخارج وطلب اللجوء السياسي نحو 1.8 مليون شخص خلال العام الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن نصف هؤلاء اللاجئين هم من الأطفال.
وأدت الأزمة السورية إلى تدفق ملايين من اللاجئين وتأتي الأزمة الأفغانية في المرتبة الثانية بـ (2.59 مليون)، ثم الصومال (1.11 مليون).
هناك مئات الالاف من اللاجئين والنازحين اليمنيين على خلفية اجتياح زميليشيا الحوثي الفاشية وحليفها المخلوع علي صالح للمدن اليمنية.
تلك هي الأرقام لشعوب كاملة حكمت عليها الأنظمة القمعية بالتهجير والموت خارج أسوار اوطانهم . تلك الأرقام هي عينة من تلك التقارير التي توزعها المنظمات الدولية التي تحولت مع الكثير من الأسف إلى مجرد عدادين يحصون عدد سكان المقابر ويسجلون الانتهاكات وينتهي الأمر عند ذلك.
إن العالم اليوم غير العالم في الأمس، عالم القرية الواحدة والمجتمع العالمي والمدينة الذكية يجب ان يكون أكثر قدرة على حل مشكلة اللاجئين واختراع السبل لوقف نزيفهم.
إننا في عالم واحد تتراءى كل أطرافه لكل ساكنيه ويتأثر بعضهم ببعض على نحو لم يكن يحدث في تاريخنا، ومالم يتكاتف العالم لوضع حد لهذا النزيف فإن الجسد الدولي سيكون كله معرضا للنزيف والقلق وعدم الاستقرار.
حين تظلم الدنيا في وجه الإنسان وتقفل الحياة كل أبوابها في وجهه، يهيم على وجهه مضطرا لركوب الأهوال والمخاطر في الجبال والقفار والبحار باحثا عن مكان آمن وعيش كريم فلا يجد يدا تمتد له إلا يد المهربين ومصاصي الدماء وتجار الجنس والمتاجرين بالبشر ، تغلق الدول في وجهه الحدود وتضع في وجهه آلاف القيود الالكترونية وتعامله كمتهم أو مشتبه او دخيل.
إن هذا الانسان ستتوالد فيه كل الأحقاد وتتكاثر فيه دواعي الانتقام ويصبح العنف والإرهاب والتطرف طريقا معبدا إلى ملاذه الأخير.
هذا الإنسان سيكون قفرا موحشا مليئا بالوحشية التي أرضعها له البحر وألقمته إياها سباع الغاب وسيكون على الدول جميعها ان تطارد هذا الوحش الذي يترقب فرصة غفلة لينتقم من الجميع ويقاتل الكل.
إن إنسانا في عالم اليوم يجد نفسه بين يدي الأقدار تتقاذفه في ضفافها ما إن يرسو به المقام في أرض حتى يرى نفسه لم يعد إنسانا، يحدق في المارين في المنتزهات، يختلس النظرات إلى الأطفال في مدارسهم بأمان، يأكلون مايشتهون وإذا تعبوا فإن المستشفيات تفتح لهم الأبواب، يعيد النظر كرتين في الجميع إنهم يشبهونه، كما لو أنهم من أب واحد، من أم واحدة، من أديم واحد لكنه لا يشبههم، فأطفاله على قارب مطاطي متهالك في عرض البحر لايعرف اين سترسوا بهم الأمواج، وبلاده لاتسمع فيها غير أصوات القذائف المصنوعة خارجها، ووطنه أضحى مقبرة وأغلب أهله في عداد المفقودين او الموتى او المعتقلين في أقبية التعذيب.
إن إنسانا هاجر حين هاجر، هاجر مكرها على الهجرة، تلقفه المجتمع هنا بالازدراء والشك والشبهة والاشتباه وقوانين الهجرة ولوائح المهاجرين وتعقيدات الهجرة ولا تصافحه سوى عصى الشرطة الغليظة.
إن إنسانا هذا حاله ستسكنه العنصرية حتى العظم وسيعيش إن عاش متخما بالطبقية والنظرة السوداء وفقدان العدالة وروح الإنسان المقهور.
إننا نؤكد من خلال هذه الصور التي نحاول استحضارها الآن أن مشكلة اللاجئين لم تعد مشكلة تخص أعدادا من الناس يمكن أن تتوزعهم الدول وينتهي الأمر إنها قضية ترتبط كليا بالأمن والسلام العالميين، إنها قضية تعكس نفسها على الأمن في كل العالم، ولقد أحسن رئيس مؤتمر ميونخ للأمن فولفجانج ايشنجر بمطالبته بعقد مؤتمر للاجئين في ميونخ، ذلك أن مسألة اللاجئين تلقي بظلالها على الأمن وعلى الإرهاب والعنف وارتفاع معدلات العنصرية.
إن العالم كله مطالب بالوقوف بكل جدية أمام قضية بهذا الحجم الكبير، والدول المتقدمة يجب ان تضطلع بدورها في تخفيف الكارثة وتقليل الأضرار.
إننا في هذا الصدد نحيي الجهود التي تقوم بها ألمانيا على وجه الخصوص، فألمانيا عاشت تفاصيل المأساة وألمانيا تمد يدها بسخاء لكل اللاجئين وهي تستعرض قصص المأساة وتقلبات التاريخ.
في هذا المؤتمر سيكون علينا ان نبحث حول الأسباب الحقيقية التي ولدت هذه المأساة، وسيتوجب على العالم الحر القائم على الحرية وحقوق الإنسان وفلسفة العدالة والمساواة ان يقف بحسم وحزم لمواجهة أسباب هذه الظاهرة والتصدي لها.
لقد قامت الثورات في العالم العربي متأثرة بنمط الحياة التي يعيشه العالم المتحضر، فثقافة القرية الواحدة والمجتمع العالمي الذكي فرضت ثقافتها على كل العالم وبدأ العالم العربي يتطلع للحرية ويتوق للكرامة ويفكر ان يحصل على حقوقه أسوة بالإنسان في الضفة الأخرى من الكوكب، فنحن نعيش في عالم واحد أصبحت كل أطرافه تتراءى لبعضها.
عندما قامت هذه الثورات وقفت لها الأنظمة الدكتاتورية بالمرصاد وفتحت في وجوه أبنائها النار وقتلتهم في الساحات والميادين.
لقد كان ثوار الربيع العربي واثقين من أن العالم المتقدم سيتفهم مطالبهم وسيعينهم على الحصول عليها إلا أن العالم وبكل أسف ظل ينظر للأحداث من زواياه الضيقة وترك للدكتاتورية تعبث بالأوطان وتنتهك الحقوق وتغالي في الأذية وكان العالم صامتا حتى تحولت كل بلدان الربيع العربي إلى حدائق من شوك.
إننا نعتقد ان الدكتاتورية والحكم الفردي والحكم العائلي كما هو الحال في سوريا الجريحة وفي اليمن الموجوع وليبيا المتعبة هي كل الداء، وأن الديموقراطية والحكم الرشيد هي كل الدواء.
لابد للعالم الحر ان يكون أكثر صرامة وحسما فيمن يهدد السلام العالمي ويعرض حياة البشرية للخطر، لقد صار بشار الأسد كما معمر القذافي والمخلوع علي صالح وغيرهم من الدكتاتوريين والمتكالبين على السلطة الذين لايكترثون لحياة الآخرين يشكلون تهديدا فعليا للسلام والأمن والاستقرار في ها العالم ويجب أن يضع العالم حدا لنزقهم.
هذه الأنظمة الظالمة والديكتاتورية هي التي صنعت القاعدة ومنها خلقت داعش وإذا لم يتدارك العالم هذه الأوبئة فإن إرهابا أشد من داعش سيولد وينموا وسيجد له الحواضن والجنود.