اصداء
بقلم: د. حيدر إبراهيم علي
دأبت لجنة جائزة نوبل على مفاجأة العرب بما هو سعيد أو محبط، فقد تركز أملهم في جائزة الأدب بالذات، على المرشح الدائم على القائمة الشاعر أدونيس. فالعرب لا يطمعون أو يطمحون في/ إلى جوائز الطب أو العلوم أو حتى الاقتصاد - رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
توجه العرب هذا العام، مع توقع أدونيس، إلى تخمينات أخرى: تكريم ثورات الربيع العربي عموما. وتمثلت المفاجأة في ذهاب الجائزة إلى شابة يمنية ذات خلفية إسلامية سياسية، مما جعل جائزة هذا العام حافلة بالدلالات. ويمكن القول إن جائزة هذا العام هي جائزة للجائزة نفسها، فقد أضافت لها قيما كانت تحتاجها في عصر يصر الكثيرون على وسمه بصراع الحضارات أو أبلسة الغرب، وأدخلت خطابا ولغة شعبوية لم تألفها أذن اللجنة.
فلأول مرة تسمع من يقول: أهدي الجائزة إلى الشعب اليمني وإلى شباب الثورة، وإلى الشعوب المتطلعة إلى الحرية. ولأول مرة يظهر شخص يهدي قيمة الجائزة المادية إلى خزينة دولته الخاوية، ليطالب بذلك باسترداد أموال البلاد المنهوبة والمهربة. كل هذه مواقف جديدة على الجائزة، تبرز تحولاً في فكر الجائزة نفسها.
ففي مسببات منح الجائزة للنساء الثلاث: الليبيريتين إلين جونسون سيرليف رئيسة الجمهورية، والناشطة لبما غبوي أو جبوي، بالإضافة إلى اليمنية توكل كرمان، جاء ما يلي: "بسبب نضالهن لنيل حقوق المرأة والحفاظ على أمنها، ولمشاركتهن الكاملة في العمل السلمي". ويضيف بيان اللجنة أنه "لا يمكن تحقيق ديمقراطية وسلام مستقرين في المجتمع، إلا إذا حصلت المرأة على نفس الفرص التي يحصل عليها الرجل لدعم التنمية في مختلف قطاعات المجتمع".
أعطت هذه الجائزة قيمة إضافية، لأن اللجنة خرجت عن تقليديتها وفهمها للسلام. فقد ساندت سلمية الثورة المدنية في اليمن. وقد تبدو كلمتا ثورة وسلمية متناقضتين، فهذا سلام آخر لا يعني عدم استخدام السلاح في حل النزاع، ولكن إسقاط النظم الدكتاتورية العسكرية، التي جاءت للحكم على ظهور الدبابات واستمرت في السلطة باستخدام العنف والقمع؛ عن طريق إعادة الاعتبار للتظاهر والاعتصامات والإضراب السياسي. ولذلك اعتبرتها "توكل كرمان" انتصارا للثورة، من خلال التقدير الذي أبداه المجتمع الدولي لدورها، الذي هو تجسيد وامتداد لدور شباب الثورة، ولكل نشطاء الربيع العربي، حسب قولها. وهذا يعني أن اللجنة تخلصت من حذرها، من أن يأخذ منح الجائزة لتوكل هذا التفسير والتوظيف أيضا. فقد ظلت "توكل" تؤكد أن الجائزة إدانة لنظام حكم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، وإثبات لعدم شرعيته.
هناك أبعاد أخرى جديدة في منح الجائزة لتوكل، المحجبة بنت الأسرة القيادية في تنظيم الإخوان المسلمين اليمني، وهي نفسها كانت (ولا أدري هل ما زالت؟) عضوا في حزب الإصلاح الإسلامي. ففي هذا رد مؤثر على هوس ما يسمي "الإسلاموفوبيا"، التي يصر البعض على أنها تحكم العلاقة بين المسلمين والغرب.
أولاً، من الملاحظ أن الإسلامية "توكل" تتحدث عن المجتمع الدولي، وليس عن الغرب. وهذا فرق كبير، فهذا المجتمع الذي تشكل في العقود الأخيرة لا يصنف حسب دينه، ولكن حسب القيم الإنسانية التي أصبحت ملكية عامة لكل البشر.
وهذه القيم تتركز في حقوق الإنسان، والديمقراطية، ووضعية المرأة، والرفاهية، والعدالة الاجتماعية. ثانياً، من الخطأ أو التدليس الحديث عن الغرب كمفهوم أو موصوف، إلا إذا تعمدنا وقصدنا سوء الفهم بإدانة التعبير الجغرافي الذي يسمى غرب أوروبا، وحولناه إلى منطقة حضارية وسياسية واحدة. فقد كان في فرنسا ديغول وسارتر في عصر واحد، وأنجبت إيطاليا موسوليني وغرامشي، وانتسب لألمانيا هتلر وهابرماس.
وقد أعطت أوروبا الغربية للعالم؛ المافيا وأطباء بلا حدود ومنظمة العفو الدولية. ثالثاً، يطالبنا الغرب من خلال منح الجائزة -ضمنياً- بقبول الآخر وتفهم تنوعه، فهناك دولة تمنع الحجاب في المدارس والمؤسسات الرسمية، ودولة أخرى تعطي أرفع جوائزها لمحجبة. وهذه رسالة تدعو لعدم التعميم وتثبيت نماذج نمطية جامدة للغرب.
من ناحية أخرى، أكملت "توكل" الوجه الآخر لصورة العالم الجديد، وهي الفهم الإسلامي التقدمي الجديد للعصر والتراث. حاول البعض أن يغيظ -بخبث - المعسكر الآخر أو ما يسمى "العلمانيين"، بالقول إن الجائزة هذا العام ذهبت إلى محجبة وأخت مسلمة، وكأن هؤلاء ليسوا دعاة سلام وديمقراطية. الإخوان المسلمون هم الآن أكثر الداعين إلى دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، فهل كانوا ينطقون بمثل هذا الخطاب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؟
والشباب الذي كان يتحدث عن جاهلية القرن العشرين، هو الذي يسعى للاندماج في عولمة القرن الحادي والعشرين، مع احترام خصوصيته. فشباب الإسلاميين ضمن أكثر الناس حبا للكمبيوتر والانترنت، ويتدافعون إلى كلياتها ومعاهدها. وهنا أيضاً، الحركات الإسلامية مثل الغرب، ليست شيئاً واحداً.
وحتى أكثرها تعصباً ورجعية، حين دخلت العمل السياسي العلني، أدركت أنه من المستحيل معاندة التاريخ والوقوف ضد الزمن. ومن المفارقة، أنه وسط فرح "توكل" بالجائزة، ينعقد مؤتمر حزبها الإسلامي، ويقف والدها القيادي عبد السلام كرمان، ليعتذر عن "قلة أدب" ابنته حين تخاطب السلطة. فهو شديد الإعجاب وقوي التأييد لعلي عبد الله صالح. هذا هو صراع الأجيال في الحركة الإسلامية الواحدة، بل داخل البيت الواحد. وهناك في الفكر قانون مهم يسمى الجدل أو الجدلية، وهو أن ينتج الشيء نقيضه ثم يعيد تركيب هذا النقيض.
حاول الرئيس اليمني -وهو ليس مخلوعاً ولا حاكماً الآن - أن يلعب، في الأيام الأولى، ورقة الشرف وحماية المرأة، وتحدث عن الاختلاط بين الرجال والنساء في الميادين حتى أوقات متأخرة في الليل! وقد فوجئت حين كنت أسمع الرد من منقبات في التلفزيون، والذي جاء قوياً: حجة وصوتاً. وقد كنت شديد الدهشة بسبب الصورة المسبقة للمنقبات، فقد كنت قبلها بأيام أسأل أحد الإخوة اليمنيين في ندوة: ماذا ستفعل هذه الكتل السوداء بالحرية؟
وكان رده: انتو خلو الحرية تجي أولًا، بعدين هم بيعرفوا يعملوا إيه؟ وقد صدقت "توكل" حين جيّرت جائزة نوبل لصالح المرأة اليمنية، ومن الواضح أن هذه القضية الاجتماعية قد فتحت في الميادين والشوارع، وليس في قاعات المؤتمرات المكيفة. وهذا وضع مختلف للتغيير، قد يجعله سريعاً وجذرياً.
تقدم "توكل" نموذجاً لنشطاء المجتمع المدني، يرفع عنهم حرج تهمة الصفوية والنخبوية والعزلة عن الجماهير؛ رمزية الوجود داخل الخيمة لشهور. البعض يتهمها بالغلو والمبالغة في هذا الموقف بالذات، ولكنها - قصدت أم لم تقصد - بدأت فيه تطهيراً لنشطاء المجتمع المدني المحاصرين بالاتهامات. ورغم فردية الحالة، إلا أنها تقدم نموذجاً يمكن أن يعمم وينتشر.
لقد دشنت "توكل" عالماً جديداً وشجاعاً، مليئاً بالجديد والمغامرات والوعود.. وبالفعل يجعل سره في أضعف خلقه.
لقراءة المقال في صحيفة "البيان" الاماراتية اضغط (هنــــــــا)