اصداء
د. محمد حسين اليوسفي
التقاها مراسلا النيويورك تايمز الأميركية، بعد أن أرخى الليل سدوله، وهي جالسة في خيمتها الصغيرة في ساحة التغيير وسط صنعاء، بعد أن حمل الأثير أنباء فوزها بجائزة نوبل للسلام، وبعد يوم مضن حافل بالمظاهرات التي اشتركت فيها الآلاف المؤلفة من الشعب اليمني، ومن بينهم آلاف لا تحصى من النساء. كانت توكل كرمان ـ كما يروي المراسلان ـ جالسة في خيمة صغيرة، وإلى جانبها طفل صغيرة ليس ولدها وإنما ابن أحد المتظاهرين الذين استشهدوا برصاص القناصة. أما أطفالها الثلاثة فهم في معية جدتهم، التي تسكن بعيداً عن منطقة الخيام. ومنذ أشهر لم تبرح توكل هذا المكان إلا خلسة لترى أطفالها، فهي ملاحقة من أزلام النظام.
جلست توكل كرمان ذات الاثنين والثلاثين ربيعاً على فرش ضيق (مَطرَح)، بالكاد يكفيها لتحكي قصتها مع العمل السياسي. قالت إن قُدوتها هو مارتن لوثر كنغ، وأيضاً غاندي ومانديلا، لكن كنغ في المقام الأول. والغريب أن قدوة توكل في العمل السياسي لم تكن شخصيات من قبيل حسن البنا وأبو الأعلى المودودي أو مصطفى السباعي، وهم من قادة الإخوان المسلمين التاريخيين، بل جاء اختيارها على "قس" مسيحي وزعيم هندوسي (غاندي)، وآخر أيضاً من المسيحيين وهو نيلسون مانديلا! أما وجه الغرابة فيكمن في أن توكل كرمان عضو في حزب الإصلاح، الذي يمثل تيار الإخوان المسلمين في اليمن، وأبوها وعمها من أقطاب هذا الحزب.
ترى، هل توكل هذه تمثل تياراً "مجدداً" في جسم حزب ديني جامد؟ يبدو أن ذلك هو حقيقة الأمر، ففي مقابلة أجرتها معها الجريدة الألمانية دير شبيغل (10/10/2011) بعد فوزها مباشرة بجائزة نوبل، سألتها الجريدة عن الدور الذي سيلعبه الإسلام، خاصة وأنها عضو في حزب إسلامي، فكان جوابها: "إن رؤيتنا هي إقامة نظام شبيه بذاك الموجود في تركيا". وبالطبع، شتان ما بين الوضع في تركيا وما هو قائم في اليمن، فالحركة الإسلامية هناك لم تجنح إلى قبول الآخر والطرح الديمقراطي والتسامح الديني والتعامل المرن مع التراث "العلماني"، إلا لعمق ذلك التراث وتجذره في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
وهو تراث بزغ نتيجة ما كانت تعانيه "الخلافة العثمانية" من تخلف وضعف وقلة حيلة، حتى غدت رجل "أوروبا المريض"، وفي نهاية أمرها وقعت فريسة للدول الاستعمارية التي تقاسمت أملاكها، بل هاجمتها في عقر دارها.
ثم إلى جانب ذلك، رغبة تركيا في الدخول إلى "الاتحاد الأوروبي"، لتكون "معيناً" لها يرفدها بعمالة شابة، حيث باتت الشعوب الأوروبية تعاني من الشيخوخة. أما اليمن فتجربتها في الدولة المدنية غضة، فتوجهها الجمهوري بعد انقلاب السلال عام 1962 في الشمال، والحكم القومي ذو التوجهات الماركسية في الجنوب منذ استقلاله من بريطانيا في 1967، قد أفسدتهما سلسلة الانقلابات في الشمال و"تناحر الرفاق" في الجنوب، مع قوة البنية القبلية وتوجهات الحركات الإسلامية، وأكبرها حركة "الإصلاح" التي زاوجت ولا تزال بين "الإسلام السياسي والتقاليد القبلية المتوارثة"، وهي الحركة التي تنتمي إليها توكل كرمان.
غير أننا لا نريد أن نصادر حق توكل كرمان ورفاقها (أو بالأحرى إخوانها)، في أن يحلموا بالتغيير وأن "يجاهدوا" من أجله. فالتاريخ لا تصنعه إلا الشخصيات الفذة التي تقهر الظروف، ونتمنى أن تكون توكل كرمان من هؤلاء، خاصة وأنها أثبتت صلابة في الموقف وقوة بأس نادرتين. فهي كانت من الأوائل الذين دعوا إلى رحيل نظام علي عبدالله صالح، فسجنت لليلة واحدة وأطلق سراحها، بعد أن امتلأت صنعاء بالمتظاهرين من أجل تحريرها. كان ذلك في يناير، أي قبل تسعة أشهر، وهي ما زالت صامدة في ميدان التغيير مع الآلاف من رجال ونساء اليمن.
والحق أن من نظرتي الأولى لها قبل أشهر وعبر الفضائيات، أدركت أن شأناً كبيراً ينتظر هذه المرأة لتلعبه في مستقبل اليمن، إذ رأيت مجموعة قليلة من النساء وسط حشد كبير من الرجال وهم يهتفون ضد نظام على عبد الله صالح، وكانت واحدة منهن فقط تلبس الحجاب والباقيات منقبات، وكانت أكثرهن حماسة في الهتاف. ومع مرور الوقت، والسؤال، عرفنا أن اسمها توكل كرمان، وهي قد هجرت النقاب قبل ثلاث سنوات، غير أنها لم تهجر حزب الإصلاح، وظلت تناضل في أروقته، إيماناً منها بأن بقاءها في الحزب سيقوي تيارها الشبابي الداعي إلى التجديد. وفي هذا الإطار، دخلت في صراعات مع قيادته التقليدية، وكانت لها مواقف مشهودة ضد توجهات هذا الحزب، خاصة حينما شنت حملة للمطالبة بـ"تحديد سن الزواج بالنسبة للفتاة".
إن ثمة إجماعاً بين كبريات الصحف الغربية، على أن منح اليمنية توكل كرمان جائزة نوبل، إنما كان رسالة "رجاء وتمنٍّ" لأن يكون التيار الإسلامي الذي يهيمن على الشارع اليمني، وربما أكثر من شارع عربي ملتهب، تياراً معتدلاً تقوده قيادات شابة من أمثال توكل كرمان، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بعد أن ذاق العالم ويلات التطرف الديني.
لقراءة المقال في صحيفة البيان الاماراتية اضغط (هنــــــــــــا)