المقالات
نحو تنمية عادلة وفعالة
بقلم: توكل كرمان
ما كان حلما بالأمس صار حقيقة اليوم، فخطة التنمية لما بعد 2015 وقبلها إعلان الألفية انجاز انساني عظيم كان ولايزال من شأنه أن يحقق للأرض سلامتها وللإنسانية رفاهها العالمي وسلامها المستدام، وللجميع حياة خالية من الفقر والجوع، سوف تغدو البشرية بكل مجتمعاتها في مكان أفضل، ما يتوجب علينا القيام به هو تنفيذ أهداف التنمية العالمية على نحو صادق وحقيقي وحسب.
ما يجعل من جهودنا في هذا المضمار ذات معنى، أن أهداف خطة التنمية تتسم بالطموح والإنصاف، لقد تم تأسيسها على مبادئ العدالة والانصاف والحرية والكرامة الانسانية المستحقة للجميع، وعلى أن الارض أمنا، حمايتها واجب الجميع وحق للجميع كما هي حق للأجيال القادمة، ما يعني أن صفحة العولمة غير المنصفة سيتم طيها، العولمة التي يحصل البعض فيها على الامتيازات والخيرات فيما الآخرين لا يحصلون على شيء.
إذا لم نتخاذل إزاء ذلك، وقررنا المضي في تحقيق أهداف التنمية على نحو شامل، فإننا سنطوي مرحلة استهلاك الأرض وإرهاقها بالتنقيب والتعدين والتصنيع الذي يدمر مناخها ويستهلك معادنها، ويقذف بها إلى كوارث بيئية متوقعة وغير متوقعة لا طاقة لنا بتحمل آثارها. لنقوم بما يجب القيام به في هذا المضمار، حتى تكون أمنا الأرض سليمة معافاة تجود للأجيال بما يكفي لاستدامة الحياة الكريمة دون منغصات.
ما هو المهم الآن؟
أعرف أن التوقيع على اجندة التنمية العالمية لما بعد 2015 من قبل حكومات ورؤساء العالم خطوة جبارة لكنها خطوة غير كافية.
من وجهة نظري المهم هو التنفيذ، وأن تجد أهداف التنمية طريقها للتحقيق في حياة المجتمعات على امتداد هذه الأرض. ولكي يحدث هذا الأمر يتطلب الأمر فيما يتطلب، وضع الخطط التفصيلية والموضوعية لتنفيذ اجندة التنمية على نحو شامل ومتوازن، كما يتطلب الاشراف الأممي الكافي على تنفيذ تلك الخطط وتقييم الاداء وتذليل الصعوبات على نحو مطرد، مع وجود ما يكفي من التمويلات اللازمة التي تحتاجها تنفيذ خطط التنمية العالمية المختلفة.
كل تلك الاجراءات ضرورية لكي لا تبقى اجندة التنمية لما بعد 2015 مجرد حبر على ورق تنضم إلى حزمة الاتفاقات والخطط التي تم التوقيع عليها، ثم تحولت إلى مواد أرشيفية حين يحين موعد الالتزام والتنفيذ.
في سياق الحديث عن تحقيق أهداف التنمية العالمية وعوامل وأسباب نجاحها، يحضر الحديث عن ثلاثية " المؤسسات القوية والسلام والعدالة" لنجاح الخطط وكفالة عدم تعثر التنفيذ وترشيد التمويلات، فحين توفر ما يكفي من الخطط وما يكفي من الاشراف والاهتمام، وما يكفي من التمويلات، فإن على الجهود أن تتجه إلى إعطاء الاولوية لإنجاز المؤسسات القوية والسلام والعدالة لكي نضمن عدم التعثر، ولكي يكون النجاح حليفنا.
المؤسسات القوية المطلوب انجازها على مستويين، مستوى المنظمة الأممية ومستوى الصعيد المحلي والوطني، فمن دون تفعيل الهيئات الاممية الحالية ذات العلاقة بتنفيذ أهداف التنمية العالمية، ودون منحها المزيد من الصلاحيات لتتمكن من إداء دورها في التخطيط والاشراف والتقييم، ودون اصلاحات جذرية تمنح هيئات المنظمة الأممية المختصة ما يكفي من الصلاحيات تحقق لها الالزام والالتزام بما تقرره وتتخذه من اجراءات وقرارات فستتعثر عملية تنفيذ اجندة التنمية العالمية على نحو محبط.
وعلى المستوى المحلي تعد عملية انجاز المؤسسات القوية شرط لا يقل أهمية لتحقيق التنمية المستدامة متعددة الابعاد، فلا تنمية دون مؤسسات رشيدة قوية تلتزم بسيادة القانون والرشد في الإدارة والمساءلة والشفافية، وتكافح الفساد وتحول دون استغلال السلطة أو إهدار الموارد.
في المقابل، يعد وجود مؤسسات فاشلة لا تقوم بواجباتها في صناعة الرفاه للمواطنين وتقوم بهدر الموارد وتبذير الامكانات، ولا تستطيع تنمية الموارد البشرية وحشدها وتطويرها لتقوم بدورها الحاسم في تحقيق التقدم والرفاه، سببا حاسما في ارتفاع معدلات الفقر والجوع والحرمان، وهذا يساعد في خلق مزيد من فشل المؤسسات، وهكذا تستمر الدائرة الجهنمية تعمل على هذا النحو حتى يكون الفشل التام من نصيب الدولة والمجتمع.
إن خلق المؤسسات القوية يبدأ بضمان شغل الوظيفة العامة من قبل الأكفأ، بعيدا عن المحسوبية والرشاوي والفساد عبر اتخاذ الاجراءات والاليات الموضوعية والمجربة لتحقيق هذا المبدأ.
إن خلق الكفاءات عبر التأهيل وتطوير القدرات ثم اتاحة الفرصة لها لشغل المناصب والوظائف العامة في الدولة، يعد خطوة حاسمة لكفالة انجاز المؤسسات القوية.
وينبغي أن يتزامن هذا الأمر مع ايجاد الشفافية والمساءلة في كل مؤسسات الدولة المختلفة وفق اجراءات مؤسساتية واصلاح قضائي يتيح للمواطنين الاطلاع على كل المعلومات والبيانات الخاصة بالشأن العام ويحقق المساءلة الفورية والشاملة عن كل حالات الفساد واساءة استغلال السلطة. هذه الاجراءات لا غنى عنها لإنجاز المؤسسات القوية على المستوى المحلي والوطني، ومن ثم لضمان التنفيذ الفعال لأجندة التنمية المستدامة.
لتجنب الفشل
أبرز المشكلات التي تعيق تنفيذ خطة التنمية لما بعد 2015 تتمثل في غياب إرادة الإصلاح في الدول التي تتميز بالمؤسسات الضعيفة وغير الفعالة، ويتحمل مسؤولو تلك الدول الذين لا يريدون مؤسسات قوية كامل المسؤولية عن هذه الحالة.
الحكومات التي لا تتحلى بالرشد تخشى من القوانين والمؤسسات القوة كون ذلك سوف يحرمها من إساءة استغلال السلطة، لذا تحول دون أن تجد الشفافية طريقها إلى البيانات والسجلات الرسمية في مختلف المؤسسات العامة، لأن هناك ما تخشى أن يطلع عليه الناس، وحتى لا يكون هناك مساءلة ومحاسبة، فثمة مصلحة لدى بعض تلك الحكومات غير الرشيدة في افلات المفسدين والمستولين على المال العام من الملاحقة والعقاب.
لا يكف المستفيدون من ضعف المؤسسات من اتخاذ الاجراءات والسياسات التي تبقيها ضعيفة، ومنع أي تحديث أو إصلاح مؤسسي رغبة في بقاء الأوضاع على ما هي عليه.
وهنا يجب أن يكون هناك جهد أممي ضاغط على تلك الحكومات وفق مستويات مختلفة أجل كفالة الشفافية والمساءلة والرشد.
بالإضافة لجهود محلية متعددة من قبل الافراد والمنظمات والاحزاب للمطالبة بالإصلاح السياسي والمؤسساتي الشامل والكافي لضمان قيام مؤسسات الحكم الجيد.
لا مفر من جهد محلي يؤديه الافراد والمنظمات والجماعات السياسية يتضافر مع جهد اممي لضمان مكافحة الفساد وكفالة الشفافية والمساءلة والرشد وغيرها من الاجراءات اللازمة لإنجاز مؤسسات قوية وقادرة على انجاز خطط التنمية.
والحقيقة إن وجوب تضافر الجهد المحلي مع الجهد الاممي له ما يبرره، إذ أن نتائج الفساد وأثاره وما ينتجه من الفقر والجوع وفشل الدولة لم يعد شأنا محليا، كما أن مكافحة الفساد وملاحقة جرائم الفساد واسترداد الاموال المتحصلة عنه لم تعد شأنا محليا كذلك، إن هذا ما تنص عليه العديد من الاتفاقات والعود الدولية التي ينتظرها التفعيل والالتزام لترى النور ولتنعم الشعوب ببركاتها.
هناك عوامل أخرى تجلب ضعف المؤسسات، منها الجهل بالإصلاح وعدم توفر الامكانات التي من بينها توفير الخبرة في كيفية انجاز المؤسسات القوية، تشريعات ولوائح وآليات مجربة ومشهود لها بالنجاح، ومن بينها أيضا توفير التمويلات الكافية لإنجاز متطلبات التحديث والتطوير للمؤسسات القائمة.
العدالة والتنمية
تتأسس اجندة التنمية العالمية على مبادئ العدالة التي يجب أن تسود في توزيع خيرات العولمة على نحو منصف بحيث تطال ببركاتها جميع في هذه القرية الكونية التي نتشارك الحياة عليها.
على المستوى المحلي يجب أن تتوزع الفرص بين المواطنين دون تمييز أو استئثار تحت أي ظرف أو مبرر تمييزي، فالعدالة تتجلى في تمتع الجميع بالحقوق والحريات الاساسية دون تمييز او حرمان.
كما يجب تحقيق العدالة الجنائية التي تكفل الحماية للمواطنين من العدوان والانتهاكات التي تطال حقوقهم وحرياتهم وتضمن أن لا يفلت المذنبون والجناة من الجزاء العادل والعقاب المنصف وفق القانون.
إن تحقيق العدالة في مجتمعات عديدة يستدعي إيقاف حرب المستبدين على شعوبهم ، هنا تتجلى العدالة في أهم صورها بحماية الشعوب من المجازر وحالات القتل التي يزاولها المستبدون بحق المواطنين المطالبين بالحرية. الطريق الى العدالة اذاً في هذه الحالة بضمان الملاحقة الدولية لمرتكبي المجازر ضد الانسانية وكفالة ان لا يفلتوا من المساءلة والعقاب، فهذه وسيلة مهمة لتحقيق العدالة في العديد من المجتمعات والدول التي تعاني من تلك الانتهاكات.
هناك ارتباط وثيق بين غياب العدالة عن المجتمعات وبين انتهاك الحريات الاساسية للمواطنين، ولذا فإن الكفاح من أجل مجتمع ديمقراطي يسوده احترام الحقوق والحريات، هو كفاح من أجل العدالة أيضا.
يمكن اللجوء للعدالة الانتقالية في الحالات التي يتوجب فعل ذلك، فالمجتمعات التي تعاني من النزعات والصراعات الداخلية في مراحل الانتقال السياسي يمكنها أن تسلك هذا الطريق، ففي النهاية العدالة الانتقالية هي مجموعة من الاجراءات التي يتم اتخاذها لتحقيق سلام مستدام مع ما يتطلبه ذلك من مصالحة مجتمعية تعبر بالمجتمع نحو المستقبل بما يكفل جبر ضرر الضحايا وتعويضهم واتخاذ كافة الاجراءات التي تحول دون تكرار النزاعات مستقبلا وتكفل عدم تكرار الانتهاكات والجرائم والمجازر ضد الانسانية. يجب التنبيه هنا على أن العدالة الانتقالية لا تقدم للمجرمين ومرتكبي المجازر صك بعدم المساءلة والملاحقة.
إن هناك مخاوف متزايدة وهذا ما يجب أن نتنبه له، أن تتحول العدالة الانتقالية إلى اجراءات لا علاقة لها بالعدالة، تتحول الى ضرب من الحصانة تمنح للمجرمين الذين ما يلبثون أن يعاودوا ارتكاب الجرائم بشكل أفظع وأشد، وإلى مزيد من القتل والنزاع، وهذا لا يساعد في الدفع بإجراء الاصلاحات السياسية المؤسساتية التي تضمن تمتع المواطنين بالحقوق والحريات وتحول دون حدوث عدوان عليها.
إن اهمال العدالة، في الدول التي تشهد نزعات وصراعات مسلحة يفضي إلى انهيار التنمية.
نعم إن العدالة غاية من غايات التنمية المستدامة، لكن لا يمكننا الانجاز على صعيد التنمية دون وجود عدالة.
الاستقرار والتنمية
من الصعب الحديث عن تنمية مستدامة في ظل النزاعات والحروب، فالمجتمعات التي تعاني من النزاعات تذهب بعيدا في الفشل بما يجلب الفقر والجوع الشامل وبما يخلق الارهاب العابر للحدود، وتغدو بيئة خصبة لتكاثر الارهاب وانتشاره في كل صوب، ينتقي الارهاب ضحاياه من وسط المجتمعات الفقيرة، الفقراء هم جنود الارهاب المخلصون يهربون إليه مع كل حاجة وعوز.
تتعدد أسباب النزعات والصراعات الداخلية التي تشهدها العديد من البلدان ولا مفر من معالجة العوامل والأسباب إذا أردنا أن نصنع سلاما مستداما في تلك البلدان.
إن الكفاح من أجل انجاز دولة يسودها السلام، هو كفاح من أجل العدالة والتنمية، وهو غاية كل جهد انساني نبيل.
ولكي يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة المهمة، فيجب أن نعمل معا على أن تكون الدولة وحدها صاحبة الحق الحصري في امتلاك السلاح ومزاولة السيادة على كامل البلاد، ومعاقبة الجماعات التي تسعى لمنازعة هذا الحق وهذه السيادة.
إن غياب السلام لا يعيق تنفيذ التنمية المستدامة كما تطمح وتسعى اليها لخطة العالمية لما بعد 2015 على المستويين المحلي والعالمي، بل يقوض ما تيسر من تلك الموارد والتنمية القائمة في المجتمعات قبل اندلاع النزاعات والحروب.
من أجل ذلك، يجب أن تكون التنمية التي نسعى إلى تحقيقها تتضمن مبادئ العدالة والسلام وسيادة القانون واحترام الحقوق والحريات الأساسية للناس، ما لم فإننا سوف نكرر الأخطاء القديمة، ولن يكون ذلك أمرا جيدا في المستقبل.
لقراءة المقال في مجلة "إمباكتر" اضغط (هنــــــــــا)