كلمات
السيدات والسادة..يشرفني أن أكون جزءًا من هذا التجمع المهم حيث نناقش التهديدات العالمية التي تواجه حرية الفكر والتعبير والحرية الأكاديمية وحقوق الإنسان بشكل عام. نهدف اليوم في مؤتمرنا هذا إلى استخلاص أدوات ومسارات عملية للدفاع عن معايير حقوق الإنسان المتعلقة بالاستقلال الفكري وحرية التعبير واستقلالية الجامعات.
لقد آمنت دائما ان حرية الرأي والتعبير وحرية التفكير ليست مجرد ترفا، بل هي ضرورة، وهي بمثابة الأساس الذي يقوم عليه صرح التقدم.
لقد آمنت دائما ان الحرية الفكرية ليست ركيزة للنمو الفردي فحسب، بل هي حجر الزاوية للتنمية والسلام والأمن العالميين.
أيها الأعزاء..
في عالم مترابط يواجه تحديات متعددة الأوجه، ويعج بوجهات نظر متنوعة، فإن الحفاظ على السلام والأمن العالميين يتطلب التزاما ثابتا بالحرية الفكرية. إن التبادل الحر للأفكار يعزز التفاهم والتسامح والحوار والتعاون بين الأمم، كما انه يوفر طريقا إلى خلق أرضية مشتركة بين المختلفين، وتجاوز الانقسامات الثقافية والسياسية والجغرافية.
وفي المقابل، عندما يتم خنق الحرية الفكرية، تصبح المجتمعات أرضاً خصبة للجهل، وانعدام الثقة، وسوء الفهم. تساهم الأنظمة الاستبدادية، من خلال قمع وجهات النظر المتنوعة والتحقيق الأكاديمي، في خلق مناخ من الشك والعداء. وهذا بدوره يزيد من احتمالات نشوب الصراع ويخل بالتوازن الدقيق المطلوب لتحقيق السلام والأمن المحلي والعالمي.
كما أن الحرية الفكرية تعمل كضمانة ضد صعود التطرف والأيديولوجيات المتطرفة، ففي بيئة تشجع التفكير النقدي والنقاش المفتوح، يصبح الأفراد مجهزين بشكل أفضل لتمييز الحقيقة من المعلومات الخاطئة والمضللة، كما تعزز القدرة على الصمود في مواجهة إغراء الأيديولوجيات المثيرة للانقسام والتي غالبا ما تؤدي إلى العنف.
إن التبادل الحر للأفكار يمثل حافزا مهما للتقدم والتطور، ففي عالم الفكر الحر تظهر الحلول المبتكرة للتحديات العالمية المعقدة، كأزمة تغير المناخ، أو الفوارق الاقتصادية، أو الصراعات الجيوسياسية.
ففي بيئة يتم فيها تشجيع الفضول الفكري، يتم تحفيز الأفراد للبحث عن المعرفة خارج الحدود التقليدية. ويصبح هذا السعي الدائم للفهم قوة دافعة تدفع المجتمعات إلى الأمام على طريق التنوير والتقدم.
علاوة على ذلك، ترتبط حرية التفكير ارتباطًا جوهريًا بمفهوم الاستقلالية. عندما يتم منح الأفراد الاستقلالية لاستكشاف أفكارهم، فإن هذا التمكين يثير الشعور لديهم بالملكية والمسؤولية، مما يحفزهم على بذل جهد جماعي لتشكيل مستقبل المجتمع والمشاركة النشطة في عملية التنمية.
في بوتقة الفكر غير المقيد وفي عقول المفكرين الأحرار يزدهر الابتكار وتظهر الأفكار الرائدة، التي تتحدى الاوضاع الراهنة وتضع حلول الى ابعد مما هو ممكن. إن تاريخ التقدم البشري مليء بالأمثلة حيث أدت الأفكار الحرة وغير المقيدة ، التي ولدت من حرية التفكير، إلى تحويل المجتمعات ودفعها إلى عصور جديدة من الرخاء.
علاوة على ذلك، فإن حرية التفكير تنمي المرونة في مواجهة الشدائد. إن المجتمعات التي تشجع التفكير المستقل تكون مجهزة بشكل أفضل للتكيف مع الظروف المتغيرة والتغلب على التحديات. إن القدرة على التقييم النقدي للمواقف وتصور الحلول البديلة تمثل رصيدًا هائلاً في رحلة المجتمعات نحو التنمية والتقدم.
المؤسف انه في خضم عالم مليء بالاستبداد والازمات والحروب والفوضى، تواجه حرية التفكير والتعبير العديد من التحديات:
أهم هذه التحديات هي الأنظمة الاستبدادية، والتي يشتد عداؤها وانتهاكاتها يوما بعد يوم لحقوق الانسان بشكل عام وحرية التفكير والحرية الأكاديمية بشكل خاص. فالحكام المستبدون، الذين يسيطر عليهم الخوف من المعارضة ومن حرية التعبير والتفكير، يشنون حرباً لا هوادة فيها ضد الاستقلال الفكري. إنهم يخفون أصوات العقل، ويحدون من البحث الأكاديمي، وينشرون الرقابة على الجامعات والمؤسسات البحثية كأداة للسيطرة على العقول. في هذه الأنظمة القمعية، يجد الطلاب والعلماء والباحثين أنفسهم في مواقف محفوفة بالمخاطر، حيث يُقابل سعيهم وراء المعرفة بالريبة والعداء. وأصبحوا عرضة بشكل متزايد للتهديدات والقمع، مما يجبر العديد منهم على الفرار من أوطانهم بحثاً عن الأمان.
تعد بلدي اليمن والتي عانت من الاستبداد لـ٣٣ عاما وتعاني الان من الانقلاب الحوثي المدعوم من ايران، ومن حرب السعودية والامارات، مثالا صارخا على الآثار المدمرة للاستبداد والحروب والانقلابات على التنمية والسلام. لقد كان التعليم وحرية الفكر والتعبير أحد اكبر ضحاياهم،
لقد كان لحرب السعودية والامارات وانقلاب ميليشيا الحوثي المدعومة من ايران في بلدي اليمن تأثيرات مدمرة على كل مجالات الحياة وبينها التعليم، سواء التعليم الجامعي أو مراحل التعليم الأخرى ما قبل الجامعية.
لقد دمرت الحرب مجتمع التعليم العالي في اليمن، وتعرض الطلاب وأساتذة الجامعات والعاملين فيها للقتل والإصابات، كما تعرضت الجامعات والمكتبات والمواقع الثقافية وغيرها من البنية الثقافية التي تخدم العلماء والطلاب للتدمير أو الأضرار البالغة. لقد قطعت مرتبات أساتذة الجامعات والعاملين فيها منذ ست سنوات، ولا زالت حتى الآن.
إن ذلك ليس سوى وجه من أوجه معاناة الجامعات والتعليم العالي في اليمن. السيء لازال مستمر ولم يصل إلى أقصاه بعد. استبيحت الجامعات الحكومية والخاصة من قبل ميليشيات الحوثيين، وفرضوا موالين لهم لإدارتها وفي مقاعد التدريس أيضا، كما تم تغيير المناهج التعليمية في كل مراحل التعليم بما فيها الجامعات بمناهج تدرس أفكار عنصرية تتوافق مع أيديولوجية جماعة الحوثي الانقلابية.
هاجر المئات من أساتذة الجامعات إلى خارج اليمن، وواجه أغلب من بقوا حياة قاسية وعاشوا وما يزالوا عيشة الكفاف.
ما يحدث في اليمن ليس حادثا معزولا؛ فهو يعكس انهيار الأنظمة التعليمية في دول أخرى متأثرة بالاستبداد والحروب وبالصراعات الجيوسياسية. وتحديدا انهيار النظام التعليمي والجامعي هو سمة عرفتها كل البلدان التي انهارت فيها الدولة ودخلت في حروب وصراعات تسببت فيها الثورات المضادة للربيع العربي، وشاركت فيها إيران والسعودية، وهنا دولتان، على تناقضهما الظاهري، تلتقيان في معاداتهما لثورات الشعوب وللديمقراطية وحقوق الانسان وكل ما له صلة بالدولة الحديثة ومكتسباتها الإنسانية والحقوقية.
أيها الاعزاء:
مما يزيد من تفاقم التحديات التي تواجه حرية الرأي والتعبير وحرية التفكير، التراجع العالمي المثير للقلق عن قيم العدالة، وحقوق الإنسان، ونظام القيم الإنسانية برمته.
الأمر ليس مقتصرا فقط على الانظمة المستبدة، وحتى تلك الدول الكبرى الديمقراطية، تمارس قدرا لابأس به في محاربة حرية التفكير والتعبير، وذلك بسبب التحالف بين بعض الديمقراطيات في الدول الغربية وفي مقدمتهم أمريكا وكندا والأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء العالم.
ان دعم دول الغرب الديمقراطي للحكام المستبدين وتحالفها معهم يضع الف سؤال ومليون شك حول مصداقية الخطاب الديمقراطي لتلك الدول ويساهم بشكل مباشر وغير مباشر في انتهاكات حقوق الإنسان وتقويض حرية التعبير والتفكير.
كما أن تحيزات الادارات السياسية في بعض تلك الدول في قضايا حرجة مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ودعمها غير المتناسب لأحد الطرفين، إن القيود التي تفرضها تلك الدول عندما تتصادم الآراء الأكاديمية على سبيل المثال في مثل هذه القضايا المحورية والحساسة مع التوجهات السياسية الرسمية والتي قد تصل الى معاقبة والتضييق وفصل من يتبنى وجهة نظر غير وجهة نظرها، يمثل تحديا بالغ الخطورة يواجه الحريات الاكاديمية وحرية التعبير والتفكير ويشكل تهديدا لاستقلال الجامعات وحرية الفكر داخلها، كما ينطوي على تناقض صارخ مع قيمها والتزامها برعاية حقوق الإنسان.
دعونا نضرب مثالا على ذلك من الحرب الأخيرة والمتواصلة في قطاع غزة. أدى القصف الإسرائيلي في واحدة من استهدافاته المدمرة للمباني المدنية إلى تدمير الجامعة الإسلامية في غزة وتسوية مبانيها بالأرض تقريباً. إن هذه الجامعة التي تأسست في عام 1978 بموافقة سلطات الاحتلال، هي مؤسسة التعليم العالي الأهم في غزة. أدى الحصار الإسرائيلي الخانق المفروض على القطاع منذ 16 عاما إلى منع طلاب غزة من الدراسة في الضفة الغربية أو الخارج، ولهذا يدرس في هذه الجامعة أكثر من 20 ألف طالب وطالبة، تشكّل النساء نسبة 60% منهم، وتضم كليات متنوعة تتجاور فيها اختصاصات الشريعة والفقه الإسلامي مع التخصصات العلمية في الطب والهندسة والعلوم وتكنولوجيا المعلومات والتجارة والتمريض وغيرها من التخصصات.
لقد تم تسوية هذه الجامعة بالأرض، دون أن يجد منتسبيها من الأساتذة والطلاب والعاملين، أي تضامن معهم أو استنكار لتدمير جامعتهم، من أساتذة الجامعات ورؤساء الكليات وعمداء الجامعات في الدول الديمقراطية الكبرى في أمريكا وبريطانيا وأوروبا.
أيها الاعزاء:
على الرغم من التحديات، فإن الصرخة العالمية المطالبة بالحرية والعدالة والحق في الحياة واضحة للعيان. إن المظاهرات في مختلف أنحاء العالم، من الأمريكيتين إلى آسيا، ومن أوروبا إلى الشرق الأوسط وافريقيا، تشكل خط الدفاع الأول عن المعرفة وعن الحقيقة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير والتفكير، وهي تفسر عدم فقداننا الأمل وتفاؤلنا ويقيننا الذي لا يتزعزع بأن المستقبل سيكون افضل، هذا اليقين نابع من إيماننا بشعبنا،وبشعوب العالم الملتزمة بقيم الحرية والعدالة والكرامة لكل البشر بغض النظر عن جنسياتهم وأديانهم ومعتقداتهم وألوانهم.
في الختام،
إلى الدكاترة والمؤسسات الجامعية: شجعوا طلابكم على التفكير الحر وطرح الأسئلة والتحدي وتوسيع آفاقهم، كونوا دعامة قوية لهم في مواجهة الشدائد.
ومهما كانت التحديات اخلقوا بيئة تزدهر فيها الأفكار المتنوعة، وكونوا صامدين في الدفاع عن حرية الفكر والتعبير والحرية الأكاديمية. إن التزامكم بتعزيز الفكر الحر هو إرث يتجاوز اثره طلابكم الحاليين الى الأجيال.
إلى كل الحاضرين معنا اليوم الطلاب والأساتذة والعلماء والحضور جميعاً: كن حاملا لشعلة الحرية والمعرفة والابتكار.
في عالم تكثر فيه المعلومات المضللة، كن دائما باحثا عن الحقيقة، ودع شعلة الفضول لديك متقدة لا تنطفي.
ثق بنفسك، واطلق لها العنان.
لا تخف من كل المعيقات والمحبطات والتحديات حولك، واسعي وبكل جد وراء المعرفة والابتكار.
شكك بكل ماحولك من معلومات، عدد مصادرك حتى تصل للحق، لكن اياك ثم إياك ان تشكك بنفسك وامكاناتك.
آمن بقوة أفكارك، وبأن فضولك الفكري لديه القدرة على إعادة تشكيل العالم.
دعوا أصواتكم تُسمع، ليس فقط في السعي وراء المعرفة ولكن أيضًا في الدفاع عن المظلومين وعن المبادئ الانسانية العظيمة وقيم الحرية والكرامة والعدالة .
من الضروري أن نظل يقظين. ويجب علينا أن نعمل معاً من أجل محاسبة الأنظمة الاستبدادية على ظلمها وانتهاكاتها ، والانظمة الديمقراطية على تقاعسها وجنبها ومطالبتها بالالتزام بقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. إن الدفاع عن حرية الفكر والتعبير والحرية الأكاديمية يتطلب رفضًا ثابتًا لقبول تآكل هذه القيم أو التراجع عنها.
شكرا جزيلا..