كلمات
نلتقي اليوم لاستشراف آفاقِ التحول الديمقراطي في العالم العربي في مرحلةٍ حرجة للغاية تمر بها منطقتنا، وفي ظل أحداثٍ عالمية تذهب باتجاهٍ معاكس للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ حيث تسود حربٌ تهدد العالم بشبح الأسلحة النووية، ومعها تعمّ كوارثُ طبيعية، وارتدادات نحو الاستبداد فقد عادت الانقلابات في أفريقيا التي أتت كنتاجٍ للإرث الاستعماري الغربي المستمر، واستمرت حروبُ الثورات المضادة وفتكها بالشعوب العربية في دولِ الربيع العربي.
لقد حاربوا تطلعات شعوبنا للديمقراطية ودولة القانون، وكانت النتيجةُ حروباً أهلية وانقلاباتٍ وجماعاتٍ ومليشياتٍ مسلحةً وإرهاباً، وكلها أوجه متنوعة لانتقام الثورات المضادة التي تقودها دولٌ إقليمية وتوجهاتٌ خارجية لا تريد لمجتمعاتنا أن تنتقلَ إلى وضع الدولة الحديثة الديمقراطية الممثلةِ لمصالح المجتمع وتطلعاتِه وقواهُ وفئاته المتعددة وبالطبع هي انتقام من مجتمعاتنا وثوراتنا وأحلامِنا بالحرية والعدالة والرفاه.
في مصر وتونس اُستخدمت سلطة الدولة للتنكيل بالمخالفين وفتحت السجون وكممت الأفواه وقوضت الحياة السياسية وتغول المستبدون وألغوا استقلالَ السلطات القضائية وأُخرست النقاباتُ ومنظماتُ المجتمع المدني ….. ولكنّ ذلك كلَّه لم يحل أزمةَ السلطة في البلدين؛ وإنما ضاعفها وحوّلها إلى تهديد حقيقي لمجتمعها.
أتحدث عن مصر وتونس، فيما دول عربية أخرى لا تزالُ تحت نيران الحروب التي جلبتها الثوراتُ المضادة في السودان واليمن وسوريا وليبيا.
ربما يقولُ قائلٌ إن الديمقراطية لم تعد أولوية، وإن العالمَ العربي يرتد إلى عصور الاستبداد المطلق والعنفِ والحروب، لكنني أرى العكس تماماً. هذا ليس نهايةَ التاريخ بالنسبة للشعوب العربية التواقةِ لدولة القانون والعدالة والديمقراطية.
هذا الارتدادُ يُعلي من أهمية الديمقراطية ويعيدُ لها الاعتبار.
بالنسبة لنا الاستبدادُ والجماعات الميليشاوية الطائفية مرضٌ، ولا يقدم إجاباتٍ وحلولاً لمشكلات مجتمعاتنا وأولوياتِها وطموحاتِها.
بالنسبة لنا الحروبُ والجماعات والميليشيات المسلحة كارثه وليست حلاً.
بالنسبة لنا، فإن أنظمةَ الاستبداد والفساد رأسُ المشكلة وجذرها، ولا حلّ لدينا إلا باقتلاعها.
هذا الوضع السوداوي الذي نعانيه اليوم هو نتاج الثورات المضادة التي تحكم الآن دول الربيع، وليس نتاج ثوراتنا التي تآمر عليها العالم كله، لكن ذلك لن يجعلنا نتخلى عن أحلامنا وكفاحنا من أجل الديمقراطية والدولة الحديثة ودولةِ القانونِ،
بالعكس كل هذه المؤامرات والانكسارات والتحديات تقوي عزائمَنا وتزيد من إيماننا بالتمسك بأحلامنا ومواصلة نضالنا من أجل تحقيق نظم ديمقراطية تتيحُ المشاركة والرقابة وتنحازُ للمساواة بين المواطنين، تحقق الرفاهَ وتضمن الحريات وتصون الحقوق.
من المؤسف أن أوضاعَنا في الوطن العربي تتزامنُ عالمياً مع تراجع الديمقراطية وتوسع الحروب والعنصرية والصراع الجيوسياسي بين الدول الكبرى.
إن خِذلانَ الغربِ الديمقراطي للربيع العربي كان بدايةً لهذه التوجهات العالمية التي تتراجعُ فيها الديمقراطيةُ وحقوقُ الانسان، مفسحةً المجال لصراعات من نوع مختلف تهدد بإعادةِ البشريةِ إلى عصور الظلام، بل وتهددُ بتدمير الحضارة الإنسانية برمتها بحربٍ نووية، أصبح التهديد بها مسلكاً مألوفاً في تصريحات دول كبرى.
لقد كانت توجهاتُ شيطنةِ الربيع العربي وتجريمِ الثوراتِ الشعبية السلمية، وإلقاءِ اللوم عليها، فعلاً مضاداً للديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.
أي توجهات تدعم التحولات الديمقراطية كان يفترض أن تكون معنا في الربيع العربي، لا أن تكون أسيرةً للمخاوف. كان بإمكانِ دول الغرب الديمقراطي أن تضمن مصالحها في شرقٍ أوسطٍ ديمقراطي. هذا ممكن ومتاح. هذا سؤال جوهري: هل تعتمد مصالحُ دول الغرب في منطقتنا على وجود أنظمةٍ استبدادية وديكتاتوريات معادية لشعوبها، وميليشيات وحروب مستدامة؟
لا أرى الردةَ العالمية باتجاهِ الحروب والعنصرية والكراهية والنزعات العرقية المتطرفة إلا امتداداً للردة العالمية وفي مقدمتها خيانة الغرب الديمقراطي لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية الذي ينادي بها ودعمه للثورات المضادة للربيع العربي.
وبعيداً عن هذا الوضع الدولي فإننا ندرك أن نضالنا من أجل دول ديمقراطية تحتكم لسلطةِ القانونِ والمواطنة هي قضيتنا نحنُ وإيماننا بها غير مشروط بمساندة أحد أو توجهاته.
أعزاءي عزيزاتي؛
إن المصالحةَ بين إيران والسعودية مفهومةٌ بالنسبة لنا لأن توجهاتِهما معادية للديمقراطية وحرية المجتمعات العربية في تقرير مصيرها واختيار طريقها نحو المستقبل.
هذا تقاربٌ مفهوم بالنسبة لمجتمعاتنا التي تسعى لحياةٍ كريمة في ظل دول تحترم مواطنيها وتساوي بينهم وتحكمها سلطة القانون.
ولا نتوقع أن يكون لهذا التقاربِ أهدافٌ مختلفة عن توجهاتٍ دعمت كلَّ توجهٍ معادٍ للربيع العربي والديمقراطية وحقوق الإنسان في بلداننا.
وسواءٌ تصارعت الدول المستبدة أو تصالحت، لا يأتينا منها خير وفي كلا الحالين فإنها لا تغير توجهاتِها المعاديةَ للديمقراطية وحقوق الإنسان وحقِ الشعوب في الحرية والاختيار لحكامها وما يخدم مصالحها.
وإن لقاءنا هذا لاستشراف آفاق التحول الديمقراطي في الوطن العربي يمثلُ مناسبةً لنذكّركَم ونذكّرَ أنفسَنا ونذكّر العالم بقضيتنا التي خرج الناس من أجلها في ثورات الربيع العربي،
لقد خرج الناسُ في بلدان الربيع العربي، وهم المقصيّون والمستبعدون عن السياسة والحياة، إلى الساحات العامة في 2011 في فعلٍ شعبي جماهيري تطلّع إلى أن يضع حداً لاستبدادٍ وفسادٍ متطاول تحول إلى رؤساء مؤبدين وجمهوريات وراثية عائلية وطائفية.
لقد قال الربيعُ العربي كلمته: إن في هذه المنطقة من العالم شعوباً تمرّ برغبة جامحة للحاق بالعصر وقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة والرفاهِ وحقوق الإنسان عبر تحولٍ ديمقراطي حقيقي يحول الدولة من أداةِ سيطرةٍ وقمعٍ وقتل جماعي للمجتمع وطموحاتِه وتدميرٍ لمقدراته إلى حيزٍ يتشاركُ من خلاله كلُ المواطنين صنعَ السياسة، وينتجون توافقاتهم وإجماعاتِهم عبرَه ويديرون خلافاتِهم وتنافسات برامجِهم تحت رعايته كمؤسسةٍ جامعة لكل المواطنين.
إن التمسكَ بحق مجتمعاتِنا العربية في اختيار حكامِها والمشاركة في السياسة كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وبناء تحالف عابر للحدود والحواجز الدينية والعرقية والحضارية بين شعوب العالم للدفاع عن منظومة القيم العصرية، هي قضيتنا اليوم،
ولأجل توجهاتٍ كهذه عملنا في المجلس العربي لتنظيم هذا المؤتمر لمناقشة خارطة طريق التحول نحو الديمقراطية في وطننا العربي
نجتمعُ هنا لنرفعَ صوتَنا ونعبّرَ عن إصرارنا لبناء رؤيةٍ عربيةٍ متشابكةٍ تعيد لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان مكانتَها، وتعيد تعريف المواطنين بانتماءاتِهم الإنسانية المشتركة والمصالح التي تجمعهم والمصير المشترك لحياتهم وعالمهم لا بصراعاتِهم العرقيةِ والعنصرية والحروب التي تفرضها عليهم جماعاتٌ مسلحة فاشية ومغامراتٌ شخصية لقادة مستبدين متعطشين للحروب ولا يخلفون وراءهم سوى الجثث والمقابرَ والأرض الخراب.
ختاماً لكلمتي؛
لقد دارت عجلة التغيير في بلداننا ولن تقف قبل أن تطوي عالماً كاملاً من الطغيان والقمع والسجون والقهر والاضطهاد والاستعلاء والتمايز والفقر والفساد. ويكشف هذا المخاض الدامي حجم التراكم تحت سطح الاستقرار الخادع الذي قدم دائماً في الماضي كمبرر لمقايضته بالحرية والديمقراطية من قبل النظام العالمي والدول الكبرى المسيطرة عليه.
إن الربيع العربي لا يقبل مقايضة الحرية بالاستبداد، ولا خيار له سوى الحرية والديمقراطية والاستقرار معاً.
لقد بدأ الربيع العربي عملية تحول تاريخية لا تنقضي بين يوم وليلة. إنها عمليةٌ طويلة من إعادةِ تشكيل الوعي بالحرية والكرامة والمساواة والعدالة والديمقراطية، وبناءِ السياسة والدولة والإجماع العام على هذا الوعي الجديد.
مواجهة الثورات المضادة ليست سوى جولةٍ في مسار الثورة الشعبية ومراحلها التي انطلقت وستستمر بعفوية وتلقائية كأنها واحدة من حركات الوجود الطبيعية التي لا تستأذن أحداً ولا ترجع للوراء خوفاً من الصعوبات والعوائق والأثمان الباهظة.
إنها قيمنا العظيمة ومعركتُنا الكبرى تجتمع كلُها في كلمةٍ واحدة: الربيع العربي، هي بهذا لا خريف لها؛ بل ربيعٌ دائم ومستمر لن يتوقف حتى نحققَ الحرية والكرامة والعدالة والرفاه والديمقراطية وحكم القانون.
المجد للمكافحات والمكافحين من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية والرفاه في وطننا العربي وفي كل أنحاء العالم أحياءً وشهداء ومعتقلين وجرحى.