كلمات
كل ماهو أمامنا اليوم ينبيء بمزيد من التراجعات عن الديمقراطية. لا أريد أن أقول إن الإرتداد عن الديمقراطية عبر العالم قد بدأ مع الغزو الروسي لأوكرانيا ، ولكن بإستطاعتي القول إن ذلك الغزو وما أدى إليه قد انتقل بنهج الارتداد العالمي عن الديمقراطية إلى نقطة حرجة تؤسس لحقبة زمنية جديدة مناقضة للديمقراطية وحقوق الإنسان، ومواجهات عالمية من الحروب والصراعات الحادة والأزمات الإقتصادية، وهو ما نعيشه ونشاهده في أوروبا والعالم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
إن الحروب وسياسة القوة والغزو تهدد العالم كله بسلسلة من أزمات الإقتصاد والطاقة والغذاء سيكون لها تأثيراتها على كل مجالات الحياة ، ولعل من أبرز انعكاساتها تراجع الديمقراطية وحقوق الانسان في العلاقات الدولية ، وانتشار مناخ ملائم للديكتاتوريات والشوفينيات القومية والعنصرية في أوروبا والعالم كله.
لست من الذين يميلون إلى التشاؤم ، ولكن إنحيازنا لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان يحتم علينا إدراك مخاطر الإرتداد العالمي عن الديمقراطية وابتكار المبادرات الملائمة لمواجهة تأثيرات الحروب والصراعات العالمية وما تنذرنا به من إحتمالات تغيير عالمي يرتد بالبشرية إلى صراعات لا تقيم وزناً للقيم الإنسانية وتعيد العالم الى زمن الحروب الوحشية والغزو والمذابح والقتل الجماعي.
ان مسؤولية العالم الديمقراطي في أوروبا وأمريكا في حماية الديمقراطية تضعه أمام تحديات كبيرة، ذلك ان مواجهة الفاشية لا يكون بالمضي معها في نفس طريق الإرتداد عن القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي ميزت العلاقات الدولية في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية وما شهدته من مآس مروعة هزت أوروبا والعالم.
أعزائي عزيزاتي :
ان لقاءنا لاستشراف مستقبل الديمقراطية يأتي في ظل ما يشهده العالم من إرتداد عن الديمقراطية وانتكاسة في التوجهات العالمية المساندة لمنظومة القيم الحديثة التي سادت في التوجهات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة بداية التسعينات من القرن الماضي.
نلتقي اليوم للعمل معاً في مواجهة تحديات عالمية غير مسبوقة في ظل ما تعيشه أوروبا في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا وأزمات الطاقة والغذاء الناتجة عنها وما تنذر به من إضطرابات عالمية وتوترات في العلاقات الدولية. نلتقي اليوم لنناقش وسائل عملنا المشترك لمواجهة الارتداد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في عالم تتزايد فيه مخاطر الفاشيات وتتسع فيه رقعة الحروب والإضطرابات السياسية.
نلتقي اليوم بينما تشهد أوروبا حرب غزو لم تكن تخطر على بال احد ، وهو حدث يكمل قوس الارتداد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الدولة الحديثة الذي بدأ بتواطؤ الديمقراطيات الغربية مع الحروب المضادة لثورات الربيع العربي في العشرية الماضية.
ان عودة الفاشية لتهديد أوروبا ليس منقطع الصلة عما سبقه من احداث في الشرق الأوسط.
عندما يصمت العالم على الحروب الفاشية في مناطق بعيدة لا ترى الدول الكبرى انها تهدد أمنها ، فإن عليه ان يتوقع انتشارها ووصولها إلى البلدان البعيدة التي اعتبرت في مأمن من حروب في الشرق الاوسط والعالم الثالث.
لقد وجدت الانظمة الانقلابية المستبدة والميليشات الطائفية والجماعات المتطرفة من يعترف بها ويتصالح مع جرائمها؛ في الوقت نفسه أعلنت الحروب على الثورات الشعبية السلمية والمجتمعات التي رفعت شعارات التغيير والحرية والديمقراطية ، وتجرأت على الخروج في وجه الانظمة القمعية الفاشلة.
ان التهديدات التي تواجه الديمقراطية وتواجه أوروبا والعالم تتطلب تغييراً هيكليا وإعادة نظر في السياسات العالمية.
ان التغيير والمرونة لمواجهة التحديات الجديدة يبدأ من تغيير التوجهات العالمية امام كل المخاطر المهددة للديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الحرية والسلام والإستقرار العالمي.
دعونا نكون صريحين ونقول ان التغيير يحتاج نظرة عالمية واسعة ترى صعود الفاشية خطرا أينما كانت ، في الشرق الاوسط وافريقيا او في أوروبا والغرب.
ان عالم اليوم ، واقصد النطام العالمي والدول الغربية الكبرى، قد التزم الصمت أمام أنظمة فاشية لأنها هناك في الجهات البعيدة التي لا تهدد أوروبا ، وأعني ايران والسعودية على سبيل المثال ، وكلاهما شن حروبا عدائية ، وتدخلات تنشر الحروب الأهلية والإضطرابات وانهيار الدول وإحلال الميليشات كفاعل أساسي بديلاً عنها.
ان قضايا الديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان تأخذ حزمة واحدة ولا تجزأ بين عالم متحضر وآخر ينظر اليه خارج الحضارة والإنسانية.
هل تتذكرون الوعود العالمية بنشر الديمقراطية التي ارتفعت الآمال حولها مع نهاية الحرب الباردة؟
قبل ثلاثة عقود ونيف سقط جدار برلين الذي بنته الحرب العالمية الثانية ، لكن جدرانا عديدة تبنى اليوم في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين بين الدول والشعوب والحضارات والأفراد.
وبينما كانت التوقعات تبشرنا مع نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين بنمو الديمقراطيات الناشئة والتزام الدول بمعايير حقوق الانسان والحكم الرشيد ، ذهب العالم في طريقا آخر تراجعت فيه الديمقراطية كقيمة تحتذى في العالم كله.
اختارت الديمقراطيات الكبرى سياسات مغرقة في العزلة وعدائية ضد المهاجرين ولا مبالية أمام سجل عالمي من الانتهاكات قل نظيره في التاريخ الحديث، كل ذلك بمبررات الأمن وحماية مصالحها وأمنها.
لم تعد الديمقراطية وحقوق الانسان ضمانة يعلى من شأنها وتتخذ معيارا تشدد عليه الدول الكبرى في علاقاتها الدولية.
وبدلا عنها برزت التفاهمات غير المعلنة ، تفاهمات لديها من العمى ما يكفي لتتواطأ مع مذابح مشهودة وجرائم كبرى ضد الإنسانية.
متى ندرك اننا نعيش في عالم واحد تربطه مصالح متشابكة وعلاقات متداخلة ويتأثر بمصائره المشتركة مهما تنوعت؟
ان كفاحنا من أجل قيم إنسانية مشتركة تعلي من مكانة الديمقراطية وحقوق الانسان سيبقى هدفاً عالمياً يجمع البشر من حوله على إختلاف أعراقهم ودياناتهم ودولهم. ولمثل هكذا توجهات نجتمع هنا لنرفع صوتنا ونعبر عن إصرارنا لبناء رؤية عالمية متشابكة تعيد لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان مكانتها ، وتعيد تعريف البشر بإنتماءاهم الإنسانية المشتركة والمصالح التي تجمعهم والمصير المشترك لحياتهم وعالمهم لا بصراعاتهم العرقية والعنصرية والحروب الفاشية التي تفرضها عليهم أنظمة فاشية ومغامرات شخصية لقادة متعطشون للحروب ولا يخلفون وراءهم سوى الجثث والمقابر والأرض الخراب.
في مواجهة الحرب والغزو الذي يهدد أوروبا وينذر باحتمالات تطور الحرب الى حرب عالمية ثالثة وانهيار الاقتصاد العالمي وسلسلة من أزمات الطاقة والغذاء ، وفي مواجهة الانقلابات وحروب الثورات المضادة للربيع العربي والمستبدين والجماعات الطائفية والمتطرفة ، نجتمع اليوم لنؤكد تمسكنا بقيم الحرية والديمقراطية ، ولنعيد التأكيد على تطلعاتنا لبناء عالم جديد تسود فيه القيم الديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة ، ويعمه السلام والأمن وروح المسؤلية والحرية.
لقد تحدثت في اهم المنابر العالمية قبل سنوات من غزو بوتين لأوكرانيا ، اننا جميعا في عالم واحد ، وان لا أحد يستطيع أن يبني أسوار العزلة في حدوده ليأمن سقوط أجزاء من هذا العالم في الحروب والفوضى والإضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية والمعيشية.
وأرى ان الأزمة في أوروبا الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا مناسبة مهمة لكي نعمل معا من أجل احداث تحولات وتغييرات هيكلية توحدنا كمجتمع مدني عالمي أمام صعود الفاشيات وانتشار الحروب وسلاسل الأزمات التي تتسبب بها.
انه التوقيت المناسب لكي نذكر الديمقراطيات الغربية انها تخلت عنا ، تخلت عن ثورات الحرية والديمقراطية العربية ، وتركت الأحلاف الإقليمية للمحاور المعادية للديمقراطية في ايران والسعودية وروسيا تعلن الحرب الانتقامية على مجتمعاتنا لا لشيء الا لأننا أردنا ان نكون بشرا مثل بقية البشر ، وثرنا سلميا من اجل الكرامة ودولة القانون والمجتمع المدني والمساواة وحقوق الانسان.
الاستمرار في شيطنة الربيع العربي هو تأييد للفاشية البوتينية وحروب الغزو والاخضاع التي تنفذها في اوكرانيا وتؤثر عدو اوروبا. الصمت عن ما يحدث لشعوبنا وبلداننا من حروب انتقامية - اليمن أنموذجا- تقودها السعودية وايران يضع أوروبا في موقف المساند للفاشية. جرائم السعودية وإيران في اليمن وبلدان الربيع العربي يضعها في مرتبة واحدة مع الفاشية البوتينية. شيطنة الربيع العربي هو عنوان الإرتداد العالمي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ان توجهاً عالمياً يعيد الإعتبار للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، سيكون عليه أولاً أن يقول كلمته في هذه المنطقة من العالم التي تواجه عقاباً جماعياً وحروباً إنتقامية بسبب ثوراتها الشعبية السلمية عام 2011.
إعذروني أيها الأصدقاء والصديقات ؛ ذلك أنني كلما حاولت النظر في أزمة الديمقراطية العالمية ، أجد نفسي اعود الى جوهر عملية التغيير التي مثلها الربيع العربي ، وكيف مثل اختبارا للمواقف الدولية من مجمل قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان والتحول المنشود باتجاه المجتمع المدني والدولة الحديثة.
كل ما يردده العالم من شعارات عن دعم الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار حكامها، تبدد في موقفه من ثورات الربيع العربي. لقد واجهنا حربا عالمية ، ولا زالت مستمرة إلى اليوم. لم نتجاوز نواميس الكون عندما رفعنا أصواتنا من أجل التغيير.
كانت الأنظمة المستبدة قد فشلت، وتعفنت. البطالة، والفقر، والقهر، والقمع، وكبت الحريات، والفساد، وتوريث الجمهوريات للأبناء، كل ذلك كان واقع الانظمة العربية قبل ثورات الربيع العربي في 2011. كان الإرهاب نتاجا للإستبداد، سواء باستخدام الانطمة للجماعات المتطرفة، او بفشلها الاقتصادي والسياسي وايصالها لمجتمعاتها الى الجدار المسدود.
ملايين الشباب العربي وجدوا انفسهم مجردين من طموحاتهم ومن فرص الحياة. لم نختلق الثورات من العدم. لقد تأخرت ثورات العرب، وعندما جاءت كانت فرصتنا التاريخية للحاق بالعصر. لكن النظام العالمي وقف مساندا الثورات المضادة التي قادتها اقليميا السعودية وإيران والامارات. ضخوا الأموال والأسلحة وجندوا الميليشات ودعموها لمواجهة طموحاتنا ببلدان ديمقراطية تسودها المواطنة والقانون. لم نهاجمهم ، ولم نعلن الحرب ضدهم ، لكنهم رأوا في حريتنا خطرا عليهم ، وفِي انجاز التغيير في بلداننا إعتداءا عليهم.
ختاماً لكلمتي؛ أؤكد أمامكم أن الفاشية مهزومة وستسقط في مزبلة التاريخ، مهما كانت الأثمان التي تفرضها على البشرية من قتل وترويع وخراب. ان قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ستبقى ما بقي البشر على وجه الأرض.
وسوف تنتهي الفاشيات الجديدة كما انتهت سابقاتها. العالم الجديد لن يكون إلا ما نؤمن به. المجد للكفاح الانساني المستمر من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان.