كلمات
سيكون من قبيل التضليل أن نقول إن صعود الحركات الشعبوية في الديمقراطيات الغربية هو نتيجة حصرية لإستخدام التضليل أو أنه سبب يهدد الديمقراطية وليس نتيجة للتراجع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي ميز السياسات الغربية في السنوات العشر الماضية.
دعونا نكون صريحين ونقول ان صعود الشعبوية العنصرية في دول الغرب هو نتيجة لمسار لم يأخذ هذه الشعبويات باعتبارها مشكلة من وقت مبكر. تم تغذية سياسات انعزالية عنصرية ضد اللاجئين والمهاجرين، وفئات من السكان تعود أصولهم لدول شرق أوسطية وافريقية ولاتينية.
أستخدم مصطلح "الإرهاب" في عملية تضليل لتبرير هذه السياسات الانعزالية وانسحاب الدول الكبرى من المشاركة في احتواء الاضطرابات والعنف والحروب في منطقة الشرق الأوسط، واتخذت سياسات انعزالية عنصرية امام ملايين اللاجئين والمهاجرين الذين فروا من بلدانهم بحثاً عن مأوى ومكان آمن.
وراء هذه التحولات وصعود الشعبويات في الديمقراطيات الغربية قوى ومصالح لم تعد ترى سبيلاً لصعودها غير تعبئة الجماهير بالأفكار العنصرية المتطرفة والذهاب بعيدا في الانقلاب على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام العالمي.
اتفق مع من يقول ان المعلومات المضللة هي حالة عالمية، وليست حالة منحصرة بالدول الديمقراطية، ولكن الجملة ستبقى ناقصة اذا لم نكملها ونقول ان خلف التضليل ونشر المعلومات الكاذبة يقف عالم بلا ضمير صمت عن الاستبداد وتخاذل عن دعم الشعوب العربية الحرة في ثورات الربيع العربي.
دعونا نقول ان المشكلة بالنسبة لنا لم تكن محصورة في نشر المعلومات المضللة والاكاذيب عما حدث في ثورات الربيع العربي، وإنما المشكلة الاكبر هو تواطؤ الدول الغربية مع المستبدين ومحاور الاستبداد في ايران والسعودية في حروبهم المضادة للثورات الشعبية، وتفضيل مصالحها على مساندة الربيع العربي. لذلك أرى اننا بقدر ما نحتاج الى البحث في التدابير الملائمة لتشكيل بيئة معلومات قوية تتسم بالمصداقية، فإننا نحتاج لتشكيل بيئة سياسية عالمية تكون معايير الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان هي مرجعياتها الاساسية، بدون تمييز بين البشر والشعوب على أساس العرق والدين والموقع الجغرافي.
صعود الشعبويات في دول الغرب الديمقراطية هو الوجه الآخر لأنظمة مستبدة وجماعات متطرفة في الشرق الأوسط، يفضل الغرب بقاءها واستمرارها، مدفوعا بمخاوفه من التغيير والانتفاضات والثورات المطالبة بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
يعتمد نهج الغرب على شيطنة ثورات الربيع العربي، وتضخيم خطر "الإرهاب" تماشياً مع أنظمة تصم كل من يخالفها بتهم الإرهاب لكي تبرر قمع الانتفاضات الشعبية واستخدام العنف ضد المتظاهرين واعتقال المعارضين، وما يحدث في إيران حالياً من قمع وعنف ضد الانتفاضة الشعبية نموذج لهذا التضليل وتزييف الحقائق.
الإرهاب هو من تمارسه السلطات الإيرانية والحرس الثوري، وليس الرفض الشعبي الذي مثلته الانتفاضة الجماهيرية في وجه نظام الملالي. مهسا أميني نموذج لمعاناة الشعب الإيراني من قمع وتعذيب واعتقالات واغتيالات تطال كل من يرفع صوته في مواجهة نظام الملالي والقمع الوحشي الذي يمارسه ضد معارضيه. قمع الانتفاضة الشعبية في ايران هو امتداد لحروب المستبدين ضد الثورات الشعبية المطالبة بالديمقراطية والتغيير وحكم الشعب ودولة القانون.
لم تلتزم سياسات الدول الديمقراطية الغربية بقيم الديمقراطية ومساندة الانتفاضات السلمية. لقد شاركت هذه الديمقراطيات الغربية في شيطنة الربيع العربي وعملت مع حلفاءها المستبدين لقمع ثورات الحرية والديمقراطية، وعوقبت مجتمعاتنا بحروب دامية ومدمرة في اليمن وليبيا وسوريا، ودعمت انقلابات في مصر وتونس.
ووجهت موجة الربيع العربي بالحروب والعنف، وتعثر التغيير وأخفقت التحولات الديمقراطية. كان بإمكان التغيير ونجاح الثورات الشعبية ان يدفع بالتحولات الديمقراطية إلى مديات غير مسبوقة. لكن المواقف المساندة للديمقراطية وحق الشعوب في اختيار حكامها وتغييرهم، تُمَيز بين الشعوب وتفحص ثقافاتها وإنتماءاتها العرقية ومواقعها الجغرافية، ونسبة تأثير حريتها وديمقراطيتها على مصالح دول الغرب ونفوذه.
في تاريخ البشرية والدول والصراعات والحروب كانت حرب تزييف الحقائق والتضليل والأكاذيب دائماً موجودة، والجديد اليوم هو استخدام التكنولوجيا الحديثة والتطور في وسائل الاتصال والإعلام، ساحات لحروب الأكاذيب والتضليل. الجديد هو سرعة انتشار الخبر الكاذب والمعلومة المضللة في عالم الصورة وعصر المعلومات والإنترنت ومنصات التواصل الإجتماعي.
جذر المعلومات المضللة والأكاذيب هو التوجهات السياسية التي تنتجها لخدمة مصالح دول لا تأبه بالحقيقة وتستخف بقيم حرية الصحافة وحقوق الإنسان. المواقف السياسية للانظمة والدول توفر في احيان كثيرة بيئة ملائمة لانتشار المعلومات المضللة والأكاذيب واستخدام الميليشيات الالكترونية في حملات دعائية تستخدم الفبركات والكذب والتدليس بهدف التشويش على الحقيقة وإرباك الرأي العام.
لن نحصل على صورة كاملة عن أسباب انتشار المعلومات المضللة لو اكتفينا بالنظر لوسائل ترويجها في الصحافة والإنترنت ومنصات التواصل الإجتماعي. الإعلام بكل فروعه بما في ذلك الاعلام الالكتروني ومنصات التواصل، ليس إلا ساحة من ساحات حرب تغذيها أنظمة مارقة وميليشيات مسلحة، وللأسف تشارك فيها دول كبرى عندما تتطلب مصالحها تعميم توجه واحد يتوافق مع روايتها للأحداث والقضايا المطروحة أمام الرأي العام.
الأنظمة الديكتاتورية والأيديولوجية المتورطة في حروب ضد مجتمعاتها وضد جيرانها، هي اكثر الفاعلين رعاية لبيئة الأكاذيب ونشر المعلومات المضللة.
من تجربتنا في ثورات الربيع العربي لدينا الكثير الذي يمكن أن يقال عن حرب التضليل ونشر المعلومات الكاذبة، وقد كانت حرب التضليل واحدة من صور حرب شاملة طالت كل ماله علاقة ببلدان الربيع العربي؛ ثوراتها، مجتمعاتها، دولها، ووجودها.
إن رهن الموقف من سيادة الدول والديمقراطية وحقوق الإنسان والحروب الفاشية ضد الشعوب بميزان مصالح الدول الغربية ونفوذها، وبمعايير الموقع الجيوسياسي لساحة الحرب، كل ذلك التمييز الذي مارسه الغرب الديمقراطي ساهم في بروز الفاشية في مناطق جيوسياسية معينة مثل روسيا وإيران، وصعود الشعبويات في الديمقراطيات الغربية، واتساع مساحة الارتداد عن منظومة قيم الديمقراطية والدولة الحديثة، وانتشار الحروب والاضطرابات عبر العالم.
لقد تواطأ العالم الديمقراطي مع ماكينات انتاج الاكاذيب والمعلومات المضللة التي وصمت شعوبنا بتهمة "الإرهاب" لتزييف حروب الثورات المضادة ضد المجتمعات التي ثارت من اجل الحرية والديمقراطية والعدالة في عام انطلاق ثورات الربيع العربي 2011، لقد عبرت شعوبنا عن مواقف شجاعة تجاه سياسات الاستبداد والقمع، وتوجت نضالاتها في هذا المضمار بثورات وانتفاضات شهد لها العالم بالشجاعة والنبل، فمنذ ٢٠١١ وهناك معركة واضحة المعالم بين معسكر الديمقراطية وحقوق الانسان من جهة، وبين معسكر الثورة المضادة الذي يحارب في البلدان العربية، ويريد رعايا لا مواطنين يتمتعون بكل حقوق المواطنة من جهة أخرى.
لقد أكدت في كل الفعاليات التي شاركت فيها خلال السنوات الماضية وفي محاضراتي بأهم الجامعات في أمريكا وبريطانيا ودول أوروبية، ان ثورات الربيع العربي قد وضعت العالم كله أمام ساعة الحقيقة وأنها وضعت الديمقراطيات العريقة أمام خيارات حاسمة؛ إما ان تثبت صدق توجهاتها لدعم الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات وكفاح الشعوب من اجل العدالة والديمقراطية، أو تمضي في تراجعات وارتداد عن كل منظومة حقوق الإنسان وإرثها العالمي، وهو ارتداد سيشمل الديمقراطيات المتقدمة في أوروبا وأمريكا، ولن يقف في حدود مدن عالمثالثية حولها حكامها إلى معازل كبرى أشبه بالسجون لبشر يحكمون بالعسف والطغيان ويجدون انفسهم بدون أي ضمانات او حماية قانونية أو مساندة حقيقية تخفف عنهم قبضات القهر العائدة بوحشية في السنوات السبع الاخيرة التي تلت ثورات الربيع العربي في الشرق الأوسط.
لقد تحدثت في اهم المنابر العالمية قبل سنوات من غزو بوتين لأوكرانيا، وقبل صعود الشعبويات في دول الغرب الديمقراطية، اننا جميعاً في عالم واحد، وان لا أحد يستطيع أن يبني أسوار العزلة في حدوده ليأمن سقوط أجزاء من هذا العالم في الحروب والفوضى واللادولة.
لقد تخلى العالم عن ثورات الحرية والديمقراطية العربية، وترك الأحلاف الإقليمية للمحاور المعادية للديمقراطية في ايران والسعودية وروسيا تعلن الحرب الانتقامية على مجتمعاتنا لا لشيء الا لأننا أردنا ان نكون بشرا مثل بقية البشر، وثرنا سلميا من اجل الكرامة ودولة القانون والمجتمع المدني والمساواة وحقوق الانسان.
دعونا نقول ان عالمنا يسوده نظام عالمي مأزوم وغير قابل للبقاء وقد آن اوان تغييره.
وعندما اتحدث عن نظام عالمي فانا اقصد هذا الإرتداد الصريح عن القيم الديمقراطية وحقوق الانسان الذي يميز بين شعب عربي ثائر يؤمن بالحرية والديمقراطية والمساواة ويقدم التضحيات من اجلها ، وشعب آخر في أوروبا يؤمن بنفس القيم ويضحي من أجلها .
كيف يرى عالم اليوم ودوله الكبرى، التي تواجه الغزو الروسي في أوكرانيا، نظام مثل نظام الأسد في سوريا؟ كيف يقبل العالم الديمقراطي الغربي المتحضر اعادة دمج نظام قاتل مثل نظام الأسد، نظام طائفي قتل مليون سوري وشرد خمسة ملايين واستدعى ايران وميليشياتها وبجانبها روسيا لكي يشاركونه حربه ضد شعبه؟
ما الفرق بين الغزو في أوروبا والغزو في سوريا؟ ما الفرق بين مذابح الإبادة والنظم الاجرامية وهي في منطقتنا أقسى وأوسع وأمر؟!
ما الذي يتبقى اليوم من شعارات الدول الديمقراطية الكبرى في أوروبا وأمريكا والغرب عموما الذي شكلت الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان عناوين سياساته وشعاراته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي ترعى حرب إبادة ضد الشعب اليمني تشنها ايران والسعودية بطرق مباشرة وغير مباشرة وبكل وحشية؟
اليمن جزء من هذا العالم الذي نعيش فيه ولكنها تعيش مآسي الحرب الفاشية وأزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم وحيدة وعزلاء من أي مساندة حقيقية.
ثمان سنوات وشعبنا يواجه حربا انتقامية شاملة. حربا شرسة تمثل نمطا جديدا من تقويض اسس الحياة لكل السكان. انهارت الدولة واجتاحت ميليشيات الحوثيين الطائفية العاصمة والمدن. قطعت المرتبات وانهار النظام الصحي ونظام الخدمات وتحكمت الميليشيات بالمساعدات الدولية. قصفت السعودية والامارات مدننا وبنيتنا التحتية وأنشأت ميليشيات اخرى موالية لها في مدينة عدن.
احتلت الإمارات الموانئ والمنشآت النفطية والغازية وتحتل جزيرتي سقطرى وميون والسواحل ومناطق النفط والغاز، بينما الدول الكبرى تبارك ماكينة انتاج المعلومات المضللة والاكاذيب التي تروجها الدول المتورطة في الحرب داخل اليمن.
سلطة الميليشات الحوثية المدعومة من ايران هي اعلان حرب يومية ضد سكان المدن والارياف الواقعة تحت سلطتها ، وليست جماعة وطنية تواجه الاحتلال السعودي الإماراتي الذي تتخذه ذريعة كاذبة لتبرير حربها ضد اليمنيين.
والتحالف السعودي الإماراتي يخوض حربه لتقسيم اليمن وتقاسم جزرها وسواحلها وموانئها وثرواتها الغازية والنفطية، بينما يرفع شعارا كاذبا انه يدعم الشرعية ويواجه الميليشيات الحوثية، بينما هذه الميليشيات تزداد قوة بفضل هذا التحالف العابث الذي يدير حرب تدمير اليمن.
نطالب العالم بايقاف هذه الحرب الوحشية ضد شعبنا اليمني ومساندة اليمنيين في استعادة دولتهم وافشال المخططات الخارجية الهادفة لتقسيم اليمن.
نطالب العالم بمساندة شعبنا لاستعادة دولته واستكمال المرحلة الانتقالية وفق المرجعيات الثلاث المتمثلة بقرارات الشرعية الدولية ممثلة بمجلس الأمن الدولي، والشرعية الوطنية متمثلة باتفاقية نقل السلطة ومخرجات الحوار الوطني.
نطالب المجتمع الدولي بمساندتنا لتقديم مجرمي الحرب للعدالة ومحاكمة المتورطين بجرائم الحرب في اليمن امام المحاكم الدولية، والزام إيران بوقف مساندتها للميليشات الحوثية.
نطالب العالم بفرص القيود على أمراء الحرب وقادة الميليشيات لا التعامل معهم كأطراف سياسية.
نطالب العالم باحترام حق شعبنا في الحياة ووضع حد لحرب فاشية اجتمعت فيها إيران والسعودية والإمارات وميليشيات مدعومة منهم وشريكة لهم في حربهم ضد شعبنا وبلدنا.