كلمات
كلمة توكل كرمان في مهرجان كويريتارو الدولي - المكسيك
بدايةً اعبر عن سعادتي لوجودي بينكم هنا للمشاركة في مهرجان هاي كويريتارو 2022، هذه الفعالية العالمية التي تطرح زاوية جديدة للرؤية خارج دائرة الاهتمامات السياسية المألوفة والمعتادة.
الثقافة والفكر والعلوم والفن والسينما والموسيقى والصحافة وحقوق الانسان؛ هذه العناوين الدالة على المهرجان توسع دائرة الاهتمام لتتسع للحياة بكل معانيها وآفاقها الرحبة؛ الإحتماء بالثقافة والوعي، النظر بإتجاه آفاق واسعة تقدمها لنا العلوم، التواصل بعالم الأدب والفن حيث يعاد ترميم الإنسان وتشكيل إحساسه بذاته والعالم من حوله.
لم يعرف العالم حرب شاملة واجهها بلد كتلك التي يواجهها بلدنا اليمن وشعبنا المحاصر بحروب الميليشات الحوثية والسعودية والامارات والتجويع والتنكيل، ورغم ذلك فاق عدد الروايات المكتوبة في سنوات الحرب ماكتب في هذا الفن الأدبي خلال عدة عقود ماضية. في سنوات الحرب برز اكبر عدد من الفنانين والفنانات الشباب داخل المدن المحاصرة وفي بلدان المهجر والشتات التي نزحوا اليها. في سنوات الحرب فازت اليمن ببطولة غرب آسيا للناشئين. في سنوات الحرب ولدت مواهب كثيرة من الفنانين والفنانات وبعضهم فازوا بجوائز ومهرجات فنية. لن تهزمنا الحرب والميليشيات. ان المقاومة بالكلمة وبالأدب والفن والابداع هي انتصار للحياة، هي مقاومة لا تقل عن مقاومة أعداء الحياة والحرية بالسلاح.
هذا الجيل الشاب من الأدباء والكتاب والفنانين والرياضيين والمبدعين اليمنيين يقاوم الحرب والفاشية والميليشيات بطريقته. ان كل فعل خلاق وان كان صغيرا ومحدودا هو انتصار للحياة وشعلة أمل تعدنا بالخلاص وتمنحنا قدرة على التماسك في وسط الحرائق المشتعلة من حولنا.
في لحظة فارقة تشهد فيها منطقتنا حروبا في اكثر من بلد عربي وطغيانا لاعلام الحرب وأخبارها وللسياسة من حولها، وجدت في القضايا التي حددت عناوين فعاليتكم ما يثير اهتمامي ازاء مهرجان خصب مثل هذا الذي يجمع طيفا واسعا من الحضور المتنوع في الثقافة والعلوم والفن والصحافة وحقوق الانسان.
هذا المهرجان يلهمنا الإصرار على تحفيز ودعم المبادرات الثقافية والفكرية والفنية في بلداننا الجريحة. من خلال هذا التواصل تتخلق الأفكار لما يمكننا فعله لدعم وتحفيز مبدعينا الشباب والمفكرين والأُدباء والفنانين في بلداننا من اجل اثراء مقاومتنا للحرب والفاشيات المتخلفة وتمكين مجتمعاتنا من التسلّح بالثقافة والأدب والفكر والعلوم لتجاوز تحديات تهدد وجودنا كله.
هذا المهرجان يعزز لدينا اهتماماتنا بالثقافة والفن والأدب ، والتركيز على الإمكانيات الكبيرة والاسهام الفعّال الذي يمكن ان تقوم به الفعاليات الثقافية والفنية والمثقفين والفنانين والمبدعين في مواجهة هذه الحروب والنزاعات والتخفيف من اثارها الفتاكة، ومواجهة الانقسامات التي تخلفها في مجتمعاتنا واعادة بناء جسور التواصل بين الناس الذين فرقتهم الحروب والفاشيات الطائفية، وهي مهمة سابقة للحروب، ومترافقة معها، والأهم لاحقة لها في اعادة إعمار وبناء العلاقات والنسيج المجتمعي الذي تمزقه الحروب وتترك فيه جروحاً غائرة وعميقة.
ولنا في تجارب الشعوب والبلدان التي عاشت حروباً أكبر ومآسٍ أوسع ما يلهمنا وينير طريقنا في دور فنانيها ومبدعيها ورموزها الثقافية والفنية في لئم جراح مجتمعاتها وشعوبها ونشر قيم التعايش والسلام ونبذ العنف والحروب.
الثقافة والفنون والعلوم والأدب والموسيقى والسينما تمكننا من اعادة اكتشاف انفسنا كمجتمعات وشعوب، ندرك ذواتنا والمشترك بيننا أفراداً وجماعات من خلال الفنون والفعاليات الثقافية المتنوعة وإبداعات روادها ومؤسساتها. نتقبل الاختلافات ونتعايش معها ونعقلنها بإدراك تنوعنا والبيئات المتباينة والعادات والتراث المتنوع والمؤثرات الهائلة والقيم المتغيرة التي تتنوع داخل كل بلد وكذلك من بلد الى آخر ومن منطقة الى اخرى.
نظرة خاطفة على منطقتنا العربية تكشف لنا كم أن هذا الحال من التنازع والحروب الذي نتج من عوامل عديدة تضم بينها غياب الاستثمار الثقافي في اعادة اكتشاف مايجمعنا، ومايجمعنا لا نظير له في أي منطقة من مناطق العالم وجماعاته السياسية. فعلى اختلاف دولنا ومجتمعاتنا العربية إلا أننا نتحدث بلسان واحد، وتاريخنا المشترك ووحدة التطلعات والهم العربي بقي موحدا رغم الدول القطرية والمستجدات المتراكمة عبر الزمن وتحولاته، مما يسهل مهمة من يسعى للتقارب والبحث عن ما يجمعنا ويعيد العافيه لمجتمعاتنا.
الثقافة والفنون عابرة للحدود والمذاهب والأديان. إنها مساحة يلتقي فيها البشر ويتشاركون فيها مثلما يتشاركون في الكثير مما يجمعهم، وهي على تنوعها وتعددها تثبت وترسخ النسيج المشترك بين البشر وتنمي قيم التعايش والسلام والقبول بالاخر وتفهم ثقافته وخياراته وطموحاته ورؤاه التي تتعدد وتتنوع وتختلف بمقدار اختلاف الثقافات والبيئات المجتمعية والمنابع التي تحددهم وتؤثر عليهم.
هل هذه الحروب والنزاعات التي تمدها بالوقود حركات طائفية فاشية وأنظمة مستبدة هي قدرنا المحتوم الذي لا يمكن تعديله؟!
الثقافة تقول لا. تقول إن بالإمكان تعديله. الثقافة متغيرة وقابلة للتأثير والعمل من خلالها لتغيير واقعنا وخلق الفرص لواقع جديد وحياة أفضل. البعد الثقافي هنا عامل من عوامل عديدة لكنه موجود وطويل المدى. من المبالغة القول إن الثقافة كحقل تأثير متعدد الامكانات قادر على وقف النزاعات والحروب الدائرة الان. غير أن هذه الحروب المتأججة نفسها تطرح سؤال الثقافة والتعليم أمام مجتمعاتنا بإلحاح وضرورة لا تقبل التأجيل.
ماذا حدث حتى يحول فرد واحد وظيفته أن يحكم، يحول بلده إلى بحيرة دم؟ أي تعليم تلقته هذه الآلاف المؤلفة المجندة من حركات متطرفة فاشية مثل الحوثيين في اليمن وطالبان في أفغانستان التي تقتل من يخالفها وتفتح السجون لعشرات الالاف من مواطنيها وتستعبد ملايين البشر وهم شركائها في الوطن والهوية والتاريخ والجغرافيا والانتماء؟
الحديث عن دور الفنون والثقافة يلفت انظارنا الى ملاحظة تواري وغياب المجتمع والثقافة والأحزاب والمؤسسات المدنية المرتبطة بوجود الدولة في ظل الحروب المشتعلة في اكثر من بلد في منطقتنا العربية، ويلفت نظرنا الى صعوبات اخرى تجد نموذجها في صعود وتنامي الميليشات المذهبية وثقافتها وتعبئتها، وهي عائق كبير بسبب ارتباط هذا التعصب المذهبي بالمصالح الجيوسياسية لإيران التي بنت سياستها التوسعية على قاعدة التعصب المذهبي وتأجيج الانقسامات والحروب لتمزيق البلدان العربية والسيطرة عليها عبر المنظمات الطائفية التي تنقاد لها وتتبعها وتنفذ مخططاتها. في الوجه الاخر تقوم السعودية والامارات بدور مميت في تأجيج حروب مدمرة في البلدان العربية، وتستخدم الميليشات الطائفية والسلفية في اليمن لإدارة حرب تسعى من خلالها لتقسيم اليمن.
كيف يمكن احياء دور الثقافة والفنون والأدب كتعبيرات مدنية خلاقة وضمانة للتوحد المجتمعي، وتنمية مشاركتها في التخفيف من حدة الانقسامات السياسية والمذهبية؟
هذا سؤال يفرض نفسه هنا علينا في أزمنة الحرب والاضطرابات السياسية وانهيار الدول.
الانسان إبن ثقافته ومجتمعه. وما تقرره هذه الثقافة ينعكس فيه وعلى خياراته. لا تتماسك الشعوب وتبنى البلدان من دون قيم تجمع عليها وذاكرة ثقافية وفنية تسندها.
الثقافة يمكن أن تكون وسيلة الميليشات المتطرفة التي تفجر مجتمعاتنا بأفكارها المعادية للحياة والتعايش وقيم الحرية والدولة الحديثة، ويمكن أن تكون ثقافة الطامع الخارجي الذي يمر من خلالها لشرخ مجتمعاتنا والسيطرة عليها كما هو الحال بإيران واستغلالها لمذهبية طائفية ترعاها وتصدرها ويمكن أن تكون وسيلة المتسلطين والمستبدين، ثقافة الخنوع والقطيع والامتثال والانقياد للباطش والطاغية والمهيمن، وهو ما تعبر عنه توجهات السعودية وحروبها ضد ثورات الربيع العربي ودعمها للانقلابات والمستبدين الجدد.
ويمكن أن تكون ثقافة الجماعات المتطرفة التي تستغل حالة فراغ الشباب والإستبداد الذي يقمعهم ويسد آفاق التطور أمامهم والبطالة والفقر الروحي وغياب الثقافات البناءة لتحول هؤلاء الى قنابل موقوتة وأحزمة ناسفة.
ونظرة سريعة على تاريخنا المعاصر تقول إن الاستبداد والتطرف أخوين من الرضاعة، تعايشا معاً، واستدعى كلا منهما الاخر، وخدمت آلتيهما السلطوية والمتطرفة معاً في تكامل وتناسق، أحيانا بالتحالف والاتفاق وأحيانا أخرى بالتناقض المتفق عليه الذي يلبي حاجة السلطة المستبدة وجماعات التطرف والغُلو والإرهاب من الجهة المقابلة.
أكثر ما تخشاه الفاشيات الاستبدادية والدينية هو نمو ثقافة المجتمعات العربية المعبرة عنها وعن شعوبها وعن آمالها وتطلعاتها للحاق بالعصر والقيم الديمقراطية والفكرية المرتبطة بها والتي تمثل إرثا انسانيا ومكسبا لكل الشعوب والحضارات. لقد كانت منجزات حضارتنا العربية الاسلامية محط فخر للعالم كله في زمن ازدهارها وتألقها وأخذ منها الأوروبيون واضافوا اليها. ومثل كل حضارة لها خطها البياني المتغير صعودا وهبوطا لم تختلف حالتنا عن هذا التاريخ العام للبشرية وحضاراته المختلفة.
غير ان هناك من يحاول ان يدمغنا بالتخلف ويصفنا بالارهاب كدين وكأمة. هذا التطرف الذي يجد له أصواتا وحركات وأحزاب بل ورؤساء في الغرب، يمثل حالة عنصرية متطرفة لا تنتمي للقيم التي يصف الغرب نفسه بها. في الجهة المقابلة هناك جماعات ارهابية متطرفة تنال من دين امتنا وعروبتنا بثقافتها المتطرفة وارهابها. هذا التطرف صنعته عوامل عديدة سياسية واجتماعية وعالمية. ما يعنينا هنا هو القول ان الثقافة التي نختار ان تمثل مجتمعاتنا وتساعد في تعايشنا وتطورنا هي موجودة وتحتاج الى ان نعمل عليها ونبرز امكانياتها في لم شتاتنا وجبر انقسامات مجتمعاتنا
دور الثقافة والفنون في عصر المعلوماتية والفضاء المفتوح ليس مفروشاً بالورود، فهذا الفضاء المفتوح للإعلام والإنترنت والتطور التقني هو متاح للجميع، للثقافات المتنوعة، وبعضها جماعات متطرفة وطائفية لها قنواتها وإعلامها وحضورها اللافت واستخدامها لهذه الوسائل الحديثة التي جعلت العالم قرية صغيرة كما يقال. ولعلكم تعرفون ان الجماعات الارهابية كانت بدورها تستخدم هذه التقنيات والوسائل الحديثة. وياتي في ذلك استخدام الدول والديكتاتوريات التي حولت مجتمعاتها الى ساحة حرب، استخدامها للفضاء الاعلامي ولها ثقافتها ومروجيها.
هذه البيئة من المهم إدراكها من قبل اي فعاليات ومؤسسات تسعى لابراز دور الفنون والثقافة في حل النزاعات والتخفيف من اثار الحروب والعنف ، فهذا الفضاء المفتوح مهم لابراز المهرجانات الثقافية والمعارض الفنية وإبداعات المسرح والسينما المعززة لقيم التعايش والسلام والقبول بالاختلافات والتعريف بما تجلبه حروب السيطرة والعنف لفرض الرأي والتوجهات أو السيطرة على الدولة وإعلان الحرب للاحتفاظ بها ، وهي سبب اغلب هذه الحروب التي تجتاح منطقتنا.
الفن رسالة سلام ومحبة وتعايش..
الفن إنتماء إنساني عابر للحواجز والحدود بكل أنواعها. السينما عالمية والتشكيل والنغم والموسيقى والنحت والمسرح وكل ما يبدعه الإنسان كوجود، متجاوز للغة والسياسة والمعتقدات الدينية، حتى وهو يعبر عن تميز يخص شعب أو حضارة ما.
الحقيقة الوجودية هي هاجس الفن والنجمة التي تجتذبه من بعيد، وهي حقيقة يجد الإنسان موطيء قدم فيها دون شروط السياسة والمذاهب والانتماءات الصراعية للحقيقة السياسية التي حولها الطغاة والمستبدون والمتطرفون والطائفيون إلى حراب طعنت مجتمعاتنا وحولت مناطق واسعة منها إلى كابوس يومي من الموت والخراب.
الفنون إرث إنساني مشترك لكل مجتمع وللإنسانية ككل. ميدان التفوق الجميل هو هنا في الإبداع المسرحي والموسيقي والغنائي والتنوع الملهم للفنون التي أبدعت الزخرفة والنحت والمدن العظيمة وارتقت بالذوق الإنساني في تراكم الموسيقى والمسرح والسينما خطوط وظلال وألوان التشكيل عبر الأزمان.
***
ثقافة الإقصاء والإحتكار والموت لا تعترف بالفن إلا بالقدر الذي تتمكن فيه من تطويعه كأداة للتعبئة والموت. فنون الحرب والموت ليست أمراً جديداً، وأقصد فنون الجماعات المحاربة لا تلك الفنون التي تعيد إعمار ما دمرته الحروب في نفوس الناس وروابطهم وتكاملهم الإنساني. فنون هذه الجماعات الحربية أناشيدها أهازيجها حالة استثنائية تؤكد قاعدة الفن التي تتسع لجميع البشر ولا تنفيها. سمة الفن التي تلخص مضمونه هي لغته العالمية. لغة عالمية تحمل طاقة خلاقه لكسر جبال الجليد التي صنعتها الصراعات والحروب بين البشر. لغة عالمية تبرز الوحدة في التنوع. فبقدر ما أن الإنسانية واحدة فإنها متنوعة ومتعددة الثقافات والأعراق والإنتماءات ومتعددة ومتنوعة في الفنون التي تبدعها والثقافات التي تصنعها وتعبر عنها. مهمة الفن أن يبرز هذه الوحدة في التنوع ويؤكد عليها.
هل تحتاج منطقتنا العربية إلى نشاطات ومهرجانات فنية مشابهة لهذا المهرجان في المكسيك، هل نحتاج لفعاليات تجمع المثقفين والمفكرين والفنانين والاُدباء في زمن الحرب والنزاعات والصراع العنيف؟
نعم. لا اكثر الحاحا من حاجتنا لإحياء دور الثقافة والأدب والفنون والمهرجانات الفنية والاطلاع على طاقاتها الخلاقه في زمن الحرب والمأساة التي تعيشها مجتمعاتنا ودولنا وحياتنا. دور الفنان والأديب والمفكر والموسيقي، سلاح مدني وإنساني مهم في زمن الحرب ومابعدها.
إعادة إعمار مجتمعاتنا التي قوضتها حروب المستبدين والميليشيات الفاشية والتدخلات الخارجية مهمة شاقة، أسهلها بناء المدن والاقتصاد، وأصعبها بناء الانسان والعلاقات المجتمعية والتعايش والتسامح والروابط والأنسجة التي دمرتها الحرب.
إعادة بناء العلاقات الانسانية التي دمرتها الحرب، والتعايش بين الثقافات والجماعات في إطار المجتمع الواحد، هذه مهمة المثقفين والجامعات والتعليم والفنانين والمبدعين. عندما نتحدث عن الفن بدوره السامي والنبيل والخلاق نتحدث عن صيغه الأرقى ونماذجه الأسمى مدركين أن معايير الإستهلاك والربح قد أثرت على الفن من خلال احتكاره وتصنيعه وتغليفه مثل أي سلعة.
إذا خضع الفن لهذا التصنيع والتسليع فقد معناه ورسالته. النسبية موجودة هنا مثلها في أي مجال متغير وليس بالإمكان ضبطه كما نريد أو يريدون، غير أن بإمكاننا أن نبذل الجهود ونخلق مجالات وفعاليات إبراز إبداعات الفن الخلاقة وفنانيها وهي موجودة وتحتاج إلى تواصل وإبراز ومشاركة وفعاليات ليكتشف المجتمع كلها من خلالها جانبه الجمالي والفني ويتيح له الفرصة في المشاركة في ترميم الجسور والعلاقات والمجتمعات التي أثخنتها الشظايا والمتسلطين الحمقى والصراعات العمياء.
مساحات الموت تتسع غير أن مساحات الضوء والأمل والجمال موجودة وتحتاج فقط من يوجه أنظاره باتجاهها.
هذه النظرة للفنون والثقافة والأدب ودورها في تغيير تفكيرنا والتخفيف من الانقسامات وآثار النزاعات لا تعفينا من تشخيص ما يحدث من حروب واقتتالات وتحديد دوافعها والثقافة المنتجة لها ومواجهتها بكافة الوسائل ومنها دور الثقافة والفكر والفن والفنانين والمبدعين والمثقفين. فمثل ما أن للسلام والتعايش ثقافته فإن للمستبدين والجماعات الطائفية والمتطرفة والإرهابية ثقافتها التي لابد أن يسلط عليها الضوء وتقوض ويتم تفكيكها لتحل مكانها ثقافة الديمقراطية والحرية وحكم القانون والحقوق والتعايش والقبول بالآخر والقيم التي تؤسس لبناء مجتمع ديمقراطي متكافل ويتقبل أفراده وجماعاته وأحزابه بعضهم البعض في ظل ما يرتضونه وينجزوه من اجماع وعقد اجتماعي وقانون وقضاء فعال لفض المنازعات.
***
دور الفكر والفن والثقافه والأدب في اعادة إعمار علاقاتنا بعد الحروب الطاحنة يستدعي السؤال: هل بالإمكان إنجاز دولة قانون ونظام ديمقراطي من دون الإلتفات الى الماضي وصراعاته والتشظيات التي احدثها والآلام التي خلفها ؟!
هذا السؤال يذهب بنا بعيداً الى ضرورة انجاز العدالة الانتقالية في البلدان التي عاشت حروباً مدمرة، وهذه ليست أمرا جديدا يخص مجتمعاتنا في الوطن العربي وإنما شهدتها حالات الانتقال والثورات في تاريخ العالم وشعوبه ودوله المختلفة. دور الأدب والفنون والثقافة في هذه الفترات التي تلي الحروب يكون مضاعفاً وكبيراً مقارنة بلحظات الحرب التي تلقي بالمجتمع المدني والنشاطات والفعاليات المدنية السلمية الى خلف النيران بعيدا عن الاهتمامات الحربية. هذا لا يلغي دورالثقافة والأدب والفن والفنانين وفئة المبدعين ولكنه يُحد كثيرا من فعاليتهم وحضورهم فالحرب حالة تضاد مع كل نشاط سلمي مدني وانساني. ولكن الحروب لا تنتهي ولن تنتهي مادام لدينا في مجتمعاتنا ثقافة تسوِّغ الاستبداد وترضخ لعنفه وحروبه التي يحكم من خلالها وبها ، وما دام لدينا جماعات تدعي احتكار السلطة باسم الله والدين والسلاله وتحمل السلاح لفرض تصوراتها المتطرفه بالحرب والقوه والعنف.
هذه الحقائق تدفعنا لإدراك عظمة الفنون وثقافة الديمقراطية والحرية والمساواة وحكم القانون وكل القيم المؤسسة للعدالة والمساواة والقبول بالاخر والحقوق والحريات والاحتكام للقانون وحكم الأغلبية في الخلافات والمنازعات والصراع السياسي المشروع المبني على التنافس للوصول الى السلطة كوظيفة عامة وليس كحق مطلق لمن يصل اليها.
العدالة الانتقالية تحمل معنى يمنح الفنون والثقافة والفنانين والأدباء والمثقفين المعبرين عن الروح الجماعية للمجتمع والشعب دورا كبيرا لتطبيب النفوس ولئم الجروح واعادة بناء جسور العلاقات الممزقة بين أفراد المجتمع ومكوناته التي قطعتها النزاعات والاقتتالات والصراع العنيف.
كرامة الانسان وحريته وحقه في الحياة والمساواة والحقوق التي كفلتها له كل الأديان والثقافات والشرائع والقوانين والمواثيق الدولية هذه القيم هي في جوهر الفنون والثقافه والأدب، التي تنهج طريق السلام والتعايش ورفض الحروب والعنف. الحروب والعنف هي وسيلة من يريد السيطرة والتغلب وفرض ارادته على المجتمع : نحكمهم أو نقتلهم ، هذا لسان حال الطغاة والميليشيات الفاشية.
للمسرح والسينما والفنون التشكيلية والنحت والموسيقى رسالة جمالية تلطف الوجود الإنساني وتجعل الحياة قابله للعيش والنمو الروحي والجمالي. والقيم والمعاني الانسانية التي تحملها هذه الفنون لن تكون الا تعزيزاً لحريته وكرامته وحقه في الحياة والعداله والمساواه وحقوق الانسان ، وضد الحرب والعنف والتغول والتوحش والهمجية أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً وقبل كل كلام يمكن ان يقال وبعده
ختاماً..
عالمنا اليوم يعيش حالة تحول لا مثيل لها، وما كل هذه الاختلالات والحروب وفقدان المعنى والتوازن الا دلائل على نهاية العالم القديم وتهالكه. العالم القديم ينهار والعالم الجديد لا زال غائبا وبلا ملامح ولكنه سيأتي بإرادتنا وقوة ايماننا بالحياة التي نستحقها. العالم الجديد لن يكون الا ما نؤمن به. وكلما كانت قوة ايماننا بحقوقنا وإنسانيتنا وآدميتنا وكرامتنا وحريتنا راسخة في ذواتنا كلما اقتربنا من الحياة التي نريد والعالم الذي نتطلع اليه ونأمل به وبقدومه.