كلمات
في مستهل كلمتي أمامكم ، أحيي كل الجهود الانسانية النبيلة لمواجهة تحديات أزمات الغذاء التي تزداد وتتعاظم ، ومنها مؤتمر السلام الدولي الذي يجمعنا اليوم ، والذي اتخذ من مواجهة تحديات توفير الغذاء "إصلاح الطعام" عنوانا له.
هذا المؤتمر العالمي يمثل محطة هامة في حشد الجهود العالمية وتنسيقها في شبكة عالمية هدفها التصدي للأزمات الغذائية والبحث في كل السبل المتاحة لتنسيق هذه الجهود وتنظيمها والدفع بها إلى مستويات أكثر فاعلية وتأثيراً في تعزيز العمل الإنساني على مستوى العالم.
غير ان هذا لا يجعلني أغفل عن التركيز على جوهر المشكلة في بلداننا لا على أعراضها. لقد أردنا الحياة بكرامة. وأننا نؤمن ان اهدافنا في الكرامة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق العيش الكريم والحصول على الغذاء، هي أهداف مترابطة ولا تتجزأ. وحديثنا ومشاركتنا الجهود العالمية لبحث سبل تأمين الغذاء الآمن والصحي للبشر في مناطق الصراعات والحروب والدول الفقيرة ، ليس بديلا لكفاحنا المستمر من أجل السلام والديمقراطية وحق جميع الشعوب في العيش الآمن تحت دولة قانون تضمن لهم حقوقهم الاساسية وتحترم آدميتهم.
الجهود الدولية لتأمين الغذاء الآمن والصحي والمستدام لأعداد متزايدة من البشر لم تعد اليوم مبادرات مؤقتة. لقد غدت نظم وبرامج عالمية رائدة في مجال التصدي لأزمات الغذاء، وشبكة عالمية من المنظمات الانسانية الدولية، والفاعلين المتنوعين، وكلها تعمل في هذا الحقل الإنساني، ولقاؤنا هنا يقع في هذا التشابك العالمي الذي يضع أزمات الغذاء مجالاً لإهتماماته وفعاليته. وإستمرارية هذه الشبكة العالمية لمواجهة تحديات وأزمات الغذاء هو نقطة الإرتكاز لتصورات تطويرها وتوسيعها. من المهم التأكيد على أهمية ما تحقق من اغاثة عالمية وتقديم المعونات الغذائية لملايين المستفيدين في مناطق الأزمات، وتطوير هذه الشبكة العالمية لتقديم العون الإنساني.
مع ذلك فإن رؤية واسعة لأزمات الغذاء ستجد انها بحاجة للبحث في البيئة السياسية المنتجة للحروب والعنف والأزمات الغذائية، والتي تتسبب في حدوث انهيار في منظومات الدول والخدمات وقطاعات الاعمال في مناطق النزاع التي وجد سكانها انفسهم امام مشكلات مركبة، الافتقار للغذاء هو واحد منها وأكثرها إلحاحا في استدعاء تدابير المواجهة والتصدي لآثاره التي تصل في بعض الحالات الى المجاعة.
أعزائي عزيزاتي:
في الماضي البعيد كان البشر يعانون من الجوع والحاجة إلى الغذاء. واليوم في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هناك أعداد هائلة من البشر ترزح تحت خط الفقر ولا تستطيع ان تجد احتياجاتها الكافية من الغذاء الآمن والصحي. ان عجز البشر عن الحصول على الطعام اليوم يحدث في زمن التقدم التقني والصناعي وعصر المعلومات والإنترنت والتطور التكنولوجي. هذه الحقيقة المؤلمة هي صحيفة اتهام للنظام العالمي السائد في عالمنا، ووثيقة إدانة لصراعات المصالح الدولية للدول الكبرى التي لا تضع اعتبارا لحقوق الانسان وعوامل الاستقرار والسلام العالمي.
تطورت أدوات الإنسانية، وانتكست قيمها. تقدمنا في الوسائل والآلات، وتأخرنا في تحقيق العدالة والأمن والسلام لكل البشر. أعني بكلامي هذا سياسات الدول الكبرى ، أو ما نطلق عليه اسم " النظام العالمي ". لم يكن العالم موحشا مثلما هو عليه اليوم. الجوع والفقر والقهر، هي سمات لحياة كثير من البشر في العالم الذي نعيش فيه. ان الديمقراطية ودولة القانون والاستقرار وتوفير الأمن الغذائي للمجتمع مرتبطة ببعضها البعض.
تجاربنا تقول إن الاستبداد قد صادر علينا الديمقراطية والتنمية معا. الاستيلاء على السلطة بالقوة والحرب واحتكارها، أفقر مجتمعاتنا واهدر مواردنا.
تجاربنا القاسية في بلدان الربيع العربي تزيد من إيماننا بدولة القانون والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورتها لمحاصرة الفقر والجوع وإستحالة العيش بدونها. مصادرة الحق في الحصول على لقمة عيش كريمة كان حاضرا بقوة في منظومات الإستبداد في بلدان الربيع العربي. الافتقار لدولة قانون ونظام ديمقراطي تحديات لا تنفصل عن تحدي الفقر وازمات الغذاء.
أتحدث تحديدًا عن بلدان الربيع العربي التي واجهت حروب الثورات مضادة. هناك فقر وجوع في بقاع مختلفة من العالم وبالذات في الدول الفقيرة والنامية ، غير ان انهيار الدولة والحروب الانتقامية المضادة لثورات التغيير هي جوهر المشكلة التي نواجهها في اليمن ، الساحة الاكثر ضراوة للثورة المضادة.
الأعزاء والعزيزات:
كما تعلمون، أنا من اليمن. وواجبي اليوم ان أتكلم أمامكم عما يعانيه شعبنا من ويلات الحرب والأزمة الانسانية التي تعتبر الأسوأ في العالم بحسب تقارير المنظمات الدولية وبحسب الواقع نفسه الذي يفوق ما تتضمنه هذه التقارير الدولية. أكرر على مسامعكم اعزائي عزيزاتي؛ يمر اليمن بأسوأ أزمة غذائية في عالم اليوم. هذا ليس كلاما وإنما أزمة غير مسبوقة يعيشها سكان اليمن الذين يتجاوز عددهم الثلاثين مليون انسان. انها الأزمة الانسانية الأكبر في العالم بعد سبع سنوات من حرب داخلية وخارجية استهدفت بلدنا وشعبنا.
حالنا هو نموذج لتجارب مريرة في اكثر من بلد عربي انهارت فيه الدولة بفعل ممانعة أنظمة مستبدة امام مطالب التغيير الديمقراطي التي تطورت الى ثورات شعبية قبل عشر سنوات.اليمن بلد عريق وجذوره الحضارية ضاربة في اعماق التاريخ، وقبل آلاف السنوات من وجود الدويلات المستحدثة في الخليج النفطي كان اليمن وكانت حضارته صفحة ناصعة في تاريخ البشرية. لقد ثار شعبنا قبل عشر سنوات على نظام مستبد وفاشل، حكم ثلاثة عقود ولم يورث لنا غير الفقر والفشل. اليمن بلد غني بأرضه وموارده وموقعه الاستراتيجي وسواحله وجزره وشعبه المكافح ، لكن الحرب وقفت في وجهنا.
النظام الذي اسقطناه خاض حربا انتقامية وتحالف مع المليشيات الطائفية الحوثية المدعومة من ايران واسقطوا الدولة في انقلاب 21 سبتمبر 2014. السعودية والامارات قادوا الثورة المضادة، وتواطأوا مع الانقلاب الحوثي ودعموه، وأكملوا مهمتهم لشن الحرب على اليمن في 26 مارس 2015 تحت غطاء خادع باسم مساندة الشرعية. بعد ست سنوات من تدخل التحالف السعودي الإماراتي أنشأوا ميليشيات أخرى في عدن وعملوا على منع عوزة الدولة، واستولت الإمارات على جزيرتي سقطرى وميون وميناء بلحاف والسواحل اليمنية وتحتل مناطق الغاز والنفط في محافظتي شبوة وحضرموت وتمنع الحكومة الشرعية من تصدير النفط والغاز.
إنهارت الدولة والاقتصاد والعملة ووجدت فئات واسعة من السكان نفسها تحت خط الفقر وتعاني للحصول على احتياجاتها من الغذاء والدواء. توقعت الأمم المتحدة إصابة مليونين وثلاث مائة ألف طفل يمني دون سن الخامسة بسوء التغذية الحاد خلال العام الجاري . وقالت منظمة اليونيسيف إن المزيد من الأطفال سيموتون مع كل يوم يمر دون تقديم المساعدات العاجلة. كما أشارت الأمم المتحدة إلى احتمال إصابة أكثر من مليون من النساء الحوامل والمرضعات بسوء التغذية الحاد هذا العام.
ومع هذه التوقعات المخيفة فإن برنامج الأغذية العالمي حذر مؤخرا من عجز مالي بعد أشهر ، مع عواقب مدمرة على السكان المعتمدين على المساعدات. وقد تسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال النصف الأول من عام 2021 في معاناة الملايين وأضعف قدرتهم على شراء ما يكفي من الغذاء. من جهتها نفذت السعودية في الاشهر الاخيرة حملات واسعة لطرد المغتربين اليمنيين من محافظاتها الجنوبية المحاذية لليمن. تحديدا ، استهدفت الحملة اساتذة جامعات ومدرسين وعمالة نوعية في مهن مختلفة ، وجدت نفسها تبحث عن فرص عمل خارج اليمن بسبب الحرب والصراع وانهيار الدولة.
رغم ادعاءاتها بدعم اليمن، فان الرياض لم تراع اوضاع الحرب في اليمن اذ انها لم تستثني العمالة اليمنية في اراضيها من اجراءات تعسفية مستمرة تضيق عليهم وتدفعهم للمغادرة ، ويمثل ذلك ضربة كبيرة للاوضاع الانسانية في اليمن حيث تعتبر السعودية الوجهة الوحيدة للمغتربين اليمنيين منذ عقود. تدعم ايران الميليشات الحوثية الانقلابية في صنعاء ، النسخة الشيعية من حركة طالبان ، وتتخذ اليمن ساحة في صراعها مع السعودية.
كان انقلاب الميليشات الحوثية على الدولة وحروبها لغزو العاصمة صنعاء والمدن اليمنية السبب الرئيسي للحرب وانهيار الدولة ، وتتحمل هذا المليشيات المسؤولية الأكبر عن الحرب والصراع والازمات الانسانية والمعيشية في اليمن. الحرب التي تتورط بها طهران والرياض في اليمن هي حرب مدمرة لليمن. هاتان الدولتان المارقتان ومعهما الإمارات تعيقا إنهاء الحرب وعودة الدولة اليمنية من خلال دعم المليشيات في صنعاء وعدن واستخدامها لفرض نفوذها على اليمن.
اعزائي عزيزاتي:
ان انهيار الدولة يقذف بملايين البشر في اليمن الى العراء ليواجهوا مصيرهم مجردين من كل حماية.
المعونات ليست حلا ولكنها في حالات سقوط الدول والحرب وانتشار المجاعة تمثل واجبا انسانيا دوليا. والعمل على إنهاء النزاعات وعودة الاستقرار وحكم القانون اتجاه أساسي يحتاج الى أن يتكامل مع الجانب الإنساني جنبا الى جنبا وأن لا يكون حضور احدهما مغيّبا للاخر. هذه الجهود العالمية وما يرتبط بها من برنامج أغذية مستدامة ومنضمات عالمية ، تمثل اليوم مسارا مهما للقيام بفعل ما ، يوصل رسالة انسانية عالمية تواجه تحديات صعبة تتعلق بالغذاء والجوع والحرب والصراعات وما تفرزه من مآسي إنسانية.
ومن خلال تجاربنا في اليمن اؤكد أمامكم اليوم ان النظم العالمية للغذاء المستدام والصحي التي تقوم بمهمة انسانية ملحة وكبيرة ، ونتطلع الى تعزيز دورها في اليمن وان تضع الحالة اليمنية في خانة التحرك العاجل والمستمر لتوسيع عملها والوصول الى فئات واسعة من السكان الذين يعانون من الحرب والصراع.
ان الدعم الدولي لليمن لن يكون فعالا اذا اختزل الحالة اليمنية بالجانب الإنساني والمعونات ، لكن ذلك لا يعني ان ينتظر اليمنيين الواقعين تحت خط الفقر وفِي اتون الجوع ، انتهاء الحرب ليجدوا من يقدم لهم العون الانساني.
ان مساندة إنسانية فعالة لليمن سوف تتطلب ماهو اكثر من توفير الدعم المالي لعمل المنظمات الانسانية في اليمن.
ان تفعيل دعم فعال لبرامج الاغاثة الانسانية في اليمن وتوفير الغذاء والدواء لفئات واسعة من السكان المحتاجين للمساعدة سيبقى بحاجة الى ضغوط واسعة على الميليشات الحوثية لضمان استقلالية عمل المنظمات الانسانية الدولية العاملة باليمن. تجربتنا قي اليمن تكشف الكثير عن هذه التحديات. لقد ساهم العالم في التخفيف من معاناة اليمنيين من نتائج الحرب وانهيار الدولة ، لكن سيطرة الميليشيات على عمل المنظمات الدولية حد كثيراً من عملها، واستخدم جزءا كبيرا منه في اجندة هذه الميليشات المسيطرة ، وأصيح جزءا من مواردها.
ان الانسداد في إيجاد حل لإنهاء الحرب وعودة الدولة في اليمن لا يمنع من ممارسة المجتمع الدولي لضغوط حقيقية على الميليشات الحوثية للسماح لجهود الاغاثة الدولية بممارسة عملها باستقلالية تمكنها من الوصل للمتضررين والمحتاجين والفئات السكانية التي تعاني من الحرب والصراع. ان ممارسة المنظمات الانسانية الدولية لنشاطها الإغاثي في اليمن تحت شروط الميليشات يؤدي الى تحويل جزء كبير من الدعم الدولي الى اداة بيد الانقلابيين الحوثيين الذين يفرضون قبضتهم القمعية على مساحة مكتظة بالسكان يقطنها ما يقرب من عشرين مليون يمني.
ان القيود الممنهجة والمتزايدة التي تفرضها هذه الميليشات على عمل المنظمات الدولية يحرم قطاعات واسعة من السكان من الاستفادة من المعونات الغذائية والدوائية والإنسانية. هذه المعوقات لعمل المنظمات الدولية في اليمن تعيد التأكيد ان جذر التحديات كلها هو انهيار الدولة وحلول الميليشات بديلا عنها. نريد العالم ان يساعدنا لاستعادة الدولة والاستقرار. بدون هذا سوف تتسع رقعة الجوع وسيزداد عدد الناس المتاثرين بالحرب والصراع في اليمن.
أعزائي عزيزاتي:
ختاما اقول لكم ؛ أننا في اليمن بالقدر الذي نحتاج فيه لمساندة العالم في تقديم المعونات الغذائية لمواجهة خطر المجاعة ، نحتاج بنفس القدر الى مساندة تمكننا من انهاء الحرب واستعادة الدولة الشرعية ، دولة الجمهورية اليمنية ، لاستكمال عملية الانتقال الديمقراطي. وبدون ان ينظر العالم الى أساس المشكلة اليمنية واسبابها ، ستؤدي النظرة الاحادية الى اختزال مشكلتنا بالمعونات الانسانية ، وهو تصور يغذي أسباب الأزمة الغذائية بكل ما تحتاجه للتحول الى مجاعة مستدامة تهدد مزيدا من السكان بالموت جوعاً.
الجوع والأزمات الغذائية تزيد من إيماننا بحقنا في السلام ودولة القانون وبالديمقراطية وحقوق الإنسان ، رغم أن المستبدون أساءوا اليها وحاولوا ان يقدموها كعناوين لا تمس حياة الناس ولا توقف عبث منتهكي حقوقهم والمتحكمين بالقيود المفروضة على حقهم في لقمة العيش الكريمة والمشاركة والتعبير وتقرير نوع حياتهم والحكومات التي تتولى شؤونهم، وما ثورات الربيع العربي التي ارتطمت باستبداد متشابك محليا واقليميا وعالميا إلا صيحة كبرى في هذا التطلع للعيش في ظل دول ديمقراطية تحترم شعوبها وتخدمهم وتلبي احتياجاتهم الضرورية وترتقي بمستوى حياتهم وتقر بأن المواطن هو مصدر السلطة ومن يقرر مصيرها وله الحق في الحصول على فرصة عمل وخدمات صحية وطبية ومعرفة كيف تدار المؤسسات العامة وكل ما له صلة بالشأن العام وكيف تتخذ القرارات وما تستند عليه من معايير ومعلومات ومفاضلات تتعلق بحياته ومصيره.
أحييكم جميعا وأُحيي جهودكم الانسانية النبيلة للتصدي لازمات الغذاء العالمية ، من أجل عالم متكافل ومتضامن وأكثر تجسيدا للقيم الانسانية.