كلمات
محاضرة لتوكل كرمان بمناسبة الاحتفاء بذكرى المناضل الهندي جاجيفان رام والد ميرا كومار رئيسة البرلمان
ألقت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان محاضرة بعنوان: الربيع العربي..لماذا وكيف والى اين؟ بمناسبة الاحتفاء بذكرى المناضل الهندي جاجيفان رام والد ميرا كومار رئيسة البرلمان، في الهند، فيما يلي نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
أيتها الأخوات والإخوة..
السلام عليكم ورحمة الله..
دعوني في البدء أبدي اعتزازي وفخري وسعادتي الكبيرة أنني في نيودلهي عاصمة الدولة الهندية أكبر ديمقراطيات العالم وأعرقها وأعمقها تعايشا وأشدها تنوعا وتعددا.
فخورة بأنني في بلد المهاتما غاندي ملهم النضال السلمي وصاحب الماركة المسجلة لاختراع برامج النضال غير العنيف من اجل التغيير والإصلاح ، انقل الى روح المهاتما غاندي تحيات شباب الربيع العربي الذين استلهموا من روحه ونضاله وهم يفجروا ثورتهم السلمية التي ذهلت العالم.
فخورة بأنني في بلد أندرا غاندي ونهرو.
فخورة أنني اليوم هنا أحتفي بأحد عظماء تاريخنا الانساني والد المناضلة الكبيرة.
دعوني أقول بأننا لن نستلهم من الهند نضال مؤسسه غير العنيف المهاتما غندي ونستلهم روحه المسالمة فحسب ، سيكون علينا ان نستلهم ايضا تنوعها وتعددها المتعايش والمتعاون والمتشارك والمتكامل.
ايها الاخوات والاخوة:
إن من الوفاء ان نكمل مابدأه القائد الانساني العظيم المهاتما غاندي.
الامة الهندية بكافة فئاتها ونخبها ومؤسساتها العامة والخاصة ونخبها الفكرية والسياسية والاعلامية مدعوة اليوم في هذه الذكرى الى المساهمة الفاعلة المبرمجة والمنظمة والدؤبة لازالة كافة مظاهر التمييز الذي تعاني منه فئة المنبوذين ، كما أدعو الى ان تنتصر الهند الى مبادئ المهاتما غاندي بمساندة النضالات السلمية غير العنيفة التي تشهدها دول الربيع العربي لاسيما التي لاتزال تناضل من اجل اسقاط الدكتاتور والذي يحصد عشرات الالاف من الشباب المسالم المتطلع للحرية والكرامة ، أدعوها إلى مساندة الجهود الدولية للضغط على نظام بشار الاسد ليستجيب لدعوات الجامعة العربية بالحوار والاستجابة لمطالب شعبه المشروعة في التغيير
أيها الأعزاء ...
يمكن القول أن ثورات الربيع العربي الحاضرة والقادمة أتت وستأتي استجابة لحاجة الشباب العربي الملحة لدولة المواطنة المتساوية التي يجد فيها حريته وكرامته وحقوقه المتساوية دون تمييز.
من الواضح أن دول الربيع العربي يجمعها قاسم مشترك هو أن كرامة المواطن فيها غائبه وحريته معدومة وحقوقه مغتصبة من قبل حكام ومستبدين أحالوا الوطن خلال عقود من حكومهم إلى مجرد مزرعة أو متجر خاص بالرئيس وعائلته ، والمؤسف أنه والعائلة يتصرف فيه بإسراف وسفه وغير رشد وليس على غرار مايتصرف أحدنا بمقتنياته الخاصة !!
مايجمع بين تلك الانظمة التي اسقطتها ثورات الربيع العربي والتي في طريقها لاسقاطها ، هي ان الرئيس ظل رئيسا لعقود وبقت عائلته مسيطرة على كل مراكز القرار والنفوذ مع أنها تسمى دول جمهورية وتقول دساتيرها بان السيادة للشعب وان الشعب مالك السلطة لكننا ولدنا وعشنا وبدى اننا سنموت وبشار وعائلته وعلي صالح واسرته ومبارك وبن علي والقذافي خالدون في السلطة حتى قلنا بانهم لايموتون !!
يمكنني القول بثقة أيضاً أن ثوراتنا السلمية التي اشعلناها بشجاعة أسطورية والتزام أخلاقي في كل بلدان الربيع العربي اتت ضيقاً منا بدولة المحسوبيات والرشاوي والحكم غير الرشيد والاساءات المطلقة لاستغلال السلطة لصالح الفرد والعائلة .
اتت استجابة لحاجات داخلية ملحة وليست نتيجة لإملاءات خارجية ، ولم تأتي نتيجة لإرادات ومؤامرات اقليمية ودولية كما يدعي بقايا النظام وشبكات محسوبياتهم وانصارهم الدوليين المتوجسين من الربيع العربي القابل للاستنساخ والمحاكاة والتصدير إلى كل اصقاع العالم الذي يعاني شبابه من الاقصاء والظلم والحرمان.
فجر الشباب العربي ثورته السلمية حين كان الاحباط هو السائد لدى كافة الاحزاب والقوى التقليدية من أن التغيير لن يتم وأن الشعوب لا تمتلك الشجاعة والارادة للمطالبة بالتغيير والتضحية في سبيله ، وانها قبل ذلك لاتمتلك الحلم وليس لديها تطلعات لغد أفضل تصان فيه حرياتها وتجد كرامتها الانسانية محترمة ومصانة، كان هناك قناعة راسخة لدى الجميع أن الحاكم قوي بما يمكنه من قمع أي مطالبات بالتغيير سلمية كانت او عنيفة ، وان لديه من الاجهزة العسكرية والامنية المدربة والمؤهلة والمسلحة والمعدة لمواجهة مثل تلك التحديات والمطالب الشعبية التي احتاط لها الحاكم منذ عقود فسخر الامكانات العامة واهدرها ووظفها للحيلولة دون ان تنال الشعوب حقوقها ومطالبها في الحياة الكريمة وفي المواطنة المتساوية.
كان هناك قناعة خارجية حتى لدى تلك الدول صاحبة قناعة الاصلاح من الخارج ، وتلك التي لديها اجندة لفرض الديمقراطية وحقوق الانسان على الدول والانظمة المستبدة ، ان فرض الاصلاح من الخارج فكرة غير قابلة للتحقيق وانها فكرة فاشلة باهضة الكلفة لم يعد هناك مجال لتكرارها مرة أخرى على غرار ماحدث لنظام صدام حسين الذي بدى واضحا أنه كانت هناك قناعة راسخة بأن نظام صدام هو اخر الانظمة التي تقيضها الراجمات والصواريخ القادمة من وراء الحدود وليس الشعوب ونضالاتها وتضحياتها .
كان واضحا ان تلك الانظمة وبنسب متفاوتة تحظى برضى الخارج وتعاونه وانه لايريد لها بديلا .. إما لأنه يخشى من البديل غير المعلوم لديه وغير المجرب ، أو لأنه يرى انه غير قادر على احداث التغيير وفرض الديمقراطية بالقوة ، أو أنه من جهة ثالثة يرى أن هناك انظمة قوية في مواجهة معارضة غائبه اوضعيفة، ووسط كل ذلك اندلعت ثورات الربيع العربي هادرة وشجاعة ومصممة ومضحية لديها مطلب واضح وهو الشعب يريد اسقاط النظام .. ووسيلة وحيدة وهي النضال السلمي الممهور بتقديم التضحيات بسخاء تهون في سبيله تقديم الروح وتلقي رصاص البطش والطغيان بصدور الشباب العارية من المفخخات والاسلحة والعامرة بالحب والسلام والحلم الجميل.
من كان يتوقع ان هناك شباباً سوف يواجهون الرصاص ويندفعون نحوها لاينثنون ولايتوقفون وكانها ورود وسكاكر !!
من كان سيصدق ان ذلك قد يحدث في المدى القريب والمنظور !!
كانت هناك قناعة قد ترسخت بفعل الواقع المشؤوم مفادها ان النضال السلمي غير مجدي ووسيلة من شأنها أن تنتزع الحقوق فقط من أولئك الحكام اللطيفون الرحماء ,,وليس من النظم العائلية المستعدة والجاهزة لمواجهة الجموع السلمية بالقذائف والبنادق والرصاص والتعذيب والاخفاء القسري عبر أجهزة امنية وعسكرية تعددت وتنوعت مسمياتها لكنها اتحدت على غاية وهدف واحد وهو الحيلولة دون التغيير والتمنع في وجه الاصلاح ، وضمان بقاء الرئيس المستبد وعائلته المغتصبة للثروة والسلطة في دول ليس لها من الجمهورية والديمقراطية سوى الاسم فقط !!
سرعان وخلال أسابيع من بدء ثورة الياسمين بتونس كانت الثقة بالنفس وبقدرة الشباب العربي على إحداث التغيير تكبر وتترسخ لدى كل شاب عربي لاسيما في تلك الدول التي شهدت ربيعا عربيا سلميا .
اذا اردنا الحياة الحرة والكريمة فإن القدر سوف يستجيب لنا وسوف نسقط الدكتاتور ونكسر القيود .. فقط متى اردنا ذلك، ونحن قادرون ، ونحن نستطيع دون سلاح ودون تمويل ودون دعم لوجستي أو أي نوع من انواع الدعم والمساندة الخارجية ، او حتى من خارج الثورة ، علينا فقط ان نهتف الشعب يريد اسقاط النظام ، وان نجوب الشوارع .. لانتوقف حتى يرحل الدكتاتور وحتى يسقط هو وعائلته دون تأجيل او تقسيط او تسويف لن نتوقف حتى يرحل .
شاهد العالم الآلاف من الشباب تحصدهم آلات القمع ورصاص وقذائف الانظمة وهم يقهرونها بارادتهم الحية وينتصرون عليها بقدرتهم على التضحية.
أيها الاعزاء:
يمكنكم القول بثقة ان ثورات الربيع العربي في كل دول الربيع كان يجمع بينها ان الشباب يجود بروحه في سبيل حريته وهو يعلم انه سيقتل ، وحين نشارك في المسيرات وندعو لها نعلم يقينا ان البلاطجة والشبيحة ومخبري النظام ومليشياته تترصدنا في الأزقة واسطح المباني وفي كل منعطف ، وكان لدينا يقين بأن الموت ينتظرنا في أي وقت وفي اي منعطف ، لكن لدينا يقينا اكبر بأننا سنقهر الرصاص ولسوف ننتصر ، وقد فعلنا .
الم تروا مشاهد الشباب الصابر والمناضل والمسالم وهويخوض اسطورة النضال السلمي ويقدم دروسا في التضحية السلمية في معركة الحرية والكرامة التي تستحق ان نجود لاجلها باغلى ما نملك بل كل مانملك وهي الروح والنفس ..
حين اقول الشباب العربي فانا اقصد هذه الكلمة انهم الشباب العربي من أحدث التغيير ومن قدم التضحيات ومن احدث الفارق .. بامكانكم ان تطلعوا فقط على كشوفات الشهداء والجرحى في كل ثوراتنا الربيعية وستجدون ان جلهم وغالبيتهم الساحقة اعمارهم دون الخامسة والعشرين وغالبيتهم الساحقة لم تتجاوز العقد الثالث من العمر ، إنهم في عمر الزهور.
لكنهم جمعوا حكمة العصور وجسارة جميع الأزمان والأمكنة ، لست هنا أدعو إلى صراع الأجيال أو إلى القطيعة بينها بل أقرر حقيقة شاهدتها وعايشتها ، وتقتضي اخلاق الثوار ومبادئ العدالة والانصاف ان اقولها وان ارويها
ما يميز ثورات الربيع العربي عن الثورات التحررية التي شهدتها المنطقة قبل عقود هي أن الشباب يعلمون مراحل ثورتهم ، انهم يعلمون مايريدون .. يعلمون ان ثوراتهم لاتنتهي باسقاط الدكتاتور بل تبدأ بإسقاطه، ثم باسقاط افراد عائلته واقاربه عن رئاسة الاجهزته الامنية والعسكرية ، وتمر بتغيير شبكات محسوبياته ، وتتطلب فترة انتقالية وحكومة انتقالية يرضى عنها الشباب تقود البلاد الى الدولة المدنية التي اشعلوا الثورة من اجلها وضحوا في سبيلها .
والضمان لتحقيق كل ذلك هو استدامة الفعل الشبابي واستمرار الجاهزية الشبابية للنزول الى الشارع حين يكون هناك انحراف او تباطؤ او تواطوء من قبل مؤسسات الدولة الانتقالية ، الضمان ليس القائد الرمز.. ولا الحزب القائد .. بل الشباب المتسلح بالثقة والحلم والقدرة على التضحية .
يمكن القول كذلك ، أن مايجمع ثورات الربيع العربي وما آلت إليه وما تتجه اليه هو مرورها بتلك المراحل مرحلة اسقاط الدكتاتور وافراد عائلته وشبكات محسوبيات و الفترة الانتقالية ومؤسسات الدولة الانتقالية ثم مرحلة الدولة المدنية التي تبدأ بالانتخابات وتنتهي بشراكة مجتمعية وبتداول مستدام للسلطة وبحريات وحقوق مدنية لاسبيل للتفريط بها ، تتغير الاجراءات والتفاصيل هنا وهناك كل بلد حسب ظروفه لكنها وبجوهرها تتخذ ذات المراحل والنتائج والمآلات .
يمكنني القول ان ثورات الربيع لن تفضي لما هو أسوء ، بل ستفضي الى ما هو اجمل وافضل الى درجة لايمكن التنبؤ بمداها .
ان الشراكة الشعبية في الثورات التي اشعلها الشباب وضحوا لاجلها ودفعوا بكافة المكونات الشعبية للانخراط بها في شراكة شعبية واسعة افضت الى اسقاط الدكتاتور بكل جبروته في وقت قياسي ان من شأن تلك الروح القائمة على الشراكة والتعاون في الظروف غير المواتية من شأنه ان تقدم الحلول لكافة الاشكالات التي أورثها النظام وان تتغلب على جميع المعيقات والمنفصات التي قد تنشأ هنا وهناك .
لن يكون هناك تنظيمات ارهابية تستولي على البلاد وتخلف الدكتاتور ، تلك المخاوف غير صحيحة وغير موفقة ، الارهاب والاستبداد وجهان لعملة واحدة تجمع الدكتاتور بالارهابي مصالح استراتيجية وصفات مشتركة فكل مستبد إرهابي وكل إرهابي مستبد وكلاهما يغذي الآخر ويوظفه لخدمة أهدافه وضرب خصومه ، يستمد الارهابي شرعيته من وجود المستبد ، في حين يستمد الدكتاتور مبررات بقاءه من وجود الارهابي وهكذا يغذي كل منهما الاخر في دائرة شيطانية جهنمية تحتاج فقط الى ثورة ربيعية سلمية تفككها وتتخلص من نفاياتها واثارها .
ثورة سلمية تجفف الإرهاب كفكرة عنيفة تحقق التغيير ، فلطالما روجت التنظيمات الارهابية ان الرصاص والاحزمة الناسفة هي فقط من سوف تكفل تغيير الانظمة الجاثمة منذ عقود وليس الانتخابات المزورة وليس الاحزاب والجماعات التي قبلت وتقبل بديمقراطية الحاكم الوهمية !
ان الجموع السلمية التي اسقطت الدكتاتوريات في ظرف وجيز في كل بلدان الربيع العربي أسقطت شيئا آخر ، وهو تلك الثقافة المزدرية للنضال السلمي والمقلل من شأن برامج اللاعنف مقابل إيمانها بالعنف ومواجهة الرصاص بالرصاص كسبيل وحيد قابل وقادر على إحداث التغيير.
يتردد مثل هذه المخاوف ونسمع مثل هذه الحجج الاسلاميون هم من سوف يخلفون الحكام في ثورات الربيع العربي ، مثل هذه المخاوف التي يتم الترويج لها وتداولها تفضي الى استنتاج ومطلب واحدة وهو ان ثورات الربيع لاتمتلك الغطاء الاخلاقي للثورة وانها لن تحدث تغيرا منشودا بقدر ما ستأتي بما هو أسوأ !!
اطلب ممن هم حسنو نية أن لايروجون لتلك المخاوف من إجل إطالة عمر الدكتاتور وسحب المساندة والمناصرة للشباب الثورات المسالم ، أطلب منهم ان يشاركوني القناعة في أن من حق أي تيار يمين او يساري .. اسلامي او علماني ان يصل الى السلطة وان يتولاها في اي انتخابات تقام بعد الدكتاتور، من حقهم ان يحكموا ومن واجبنا ان نتقبل النتائج وان نسلم بما تقوله اللعبة الديمقراطية .
اطلب منهم ان يشاركوني هذه القناعة ايضا في ان صعود الاسلاميين الى الحكم هو الوسيلة الوحيدة لتجريب الشعوب لهم واختبارهم ومن ثم تحولهم الى احزاب برامجية تطالبها الشعوب بالانجاز وتقيمها على اساس نجاحها في ادارة البلاد برشد يفضي إلى تحقيق الحياة الكريمة وليس بناء على الموقف الديني والحق الإلهي ، وان علينا ان نساندهم او نسحب الثقة منهم بناء على نجاحهم في الحكم وليس بناء على جلسات الدعوة وحلقات الارشاد والوعظ الديني!
ان من شأن تجريب الاحزاب الاسلامية لدورة او دورتين او اكثر في الحكم بعد الدكتاتور من شأن ذلك ان يعيدها إلى أحزاب سياسية شأنها ، كشأن الاحزاب الاخرى يقيمها الناس ويختارونها تبعا لمدى نجاحها في الوفاء بالوعود والبرامج الانتخابي ’ ذلك بدروه يساهم الى حد كبير في تجفيف مصادر التطرف والارهاب والعنف واستغلال الدين .
ان الدول الاسلامية التي شهدت تعددا ديمقراطياً كتركيا وماليزيا واندنوسيا ولبنان تشهد حضوراً اقل للارهاب والاحزمة الناسفة ، في حين تزداد فرص الجماعات الارهابية حين يكون هناك حاكم فرد وعائلة واحدة وحزب واحد يستاثر بالسلطة والثروة.