كلمات
كلمة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام في المؤتمر الدولي لحوار الاديان - كوسوفو
بداية دعوني اضع هذا التساؤل : لماذا هناك تطرف وعنف ديني أو قومي أو سياسي أو اجتماعي يزداد كل يوم؟، لا شك أن هناك إجابات متباينة،
فهناك من يرى أن الدين أيا كان ما يدعو له هو أصل التطرف والعنف، وهناك من يرى أن المتدينين والمؤسسات والجماعات الدينية هي من تؤسس للعنف والتطرف، وهناك من يرى أن غياب العدل أو وجود الاستبداد بمختلف أنواعه أو طغيان الفقر والجهل أو الاضطراب النفسي عوامل تصنع التطرف والعنف.
يستطيع كل واحد منا أن ينظر للأمر من وجهة النظر الخاصة به، لكن من المؤكد أن التطرف والعنف بشكل عام هو نتاج مشكلات متعددة، ويجب أن يخضع للفحص بشكل موضوعي، بعيدا عن الاحكام والقناعات المسبقة، والتي غالبا ما تكون غير عادلة.
لست هنا بصدد تفضيل سبب على آخر، ولكني أردت القول أن العنف بشكل عام أو التطرف ظواهر مركبة، وغالبا ما يحدثان نتيجة عوامل متعددة، ولذا يجب الانتباه من محاولات البعض لإعطائهما صبغة معينة، وكأن الأمر له علاقة بالجينات وحسب.
اصدقائي الأعزاء:
سوف اتحدث عن حرية التعبير وأهمية ذلك في مواجهة التطرف والعنف، فلا زلت أعتقد أن هناك صلة بين الاستبداد وتكميم الافواه وبين العنف. إن الاشخاص الذين لا يستطيعون التعبير عن اراءهم وافكارهم بحرية مطلقة يجنحون للعنف أكثر من أولئك الذين يستطيعون فعل ذلك. لذا، إذا أردنا الحصول على أشخاص أسوياء وأوطان بلا عنف، علينا أن نتأكد من أن هناك حرية.
لقد كان واضحا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في تأكيده على حق حرية التعبير وعدم الانتقاص منه، فاعتبره ضروريا إذا ما أريد تحقيق حقوق الإنسان الأخرى، إذ أنه على المستوى الفردي أمرا رئيسيا لتنمية وكرامة وحياة كل شخص، أما على الصعيد الوطني فإنه يعد معيارا أساسيا للحكم الرشيد وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
الجميع يدرك هذه الحقيقة، عدا النظم السلطوية التي تعتبر حرية التعبير ضربا من ضروب الخيانة أو عملا من أعمال التربص بالوطن، ولذا يتم اغلاق الصحف ووسائل الإعلام واعتقال الصحفيين، فضلا عن منع أي شخص من التعبير عن أرائه وقناعاته العامة تجاه كثير من الأمور التي يعتقد بخطئها.
باعتقادي أنه يمكن لحرية التعبير أن تكون أداة حاسمة في مواجهة العنف والتطرف، كون حرية التعبير تنزع المبررات الأخلاقية والسياسية لأي عمل عنفي. فغالبا ما يبرر الأشخاص والجماعات الذين يسلكون طريق العنف والتطرف ما يقومون به بأنه ناتج عن عدم قدرتهم على التعبير عن أنفسهم وآراءهم، فضلا عن تعرضهم للقمع والاستبعاد السياسي والديني والاجتماعي.
إن كفالة حرية التعبير ستتيح للناس فرص المعرفة والتعلم والتنافس والصراع البناء، وسيكون بمقدورهم إخضاع جميع الآراء والأفكار تحت طاولة النقد، وهذا ليس في مصلحة الأفكار والتعبيرات المتطرفة والراديكالية سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. علينا أن نتذكر أن الأفكار المتشددة تنمو في الظلام، وتحت وطأة التضييق على الحريات واهدار حقوق الإنسان.
أصدقائي الأعزاء:
لقد أثبتت تجربتنا في الربيع العربي حقيقة أن الشعوب حين تتمكن من التعبير عن نفسها بطريقة سلمية حرة، فإن أصوات التطرف تتراجع، حتى كدنا نشعر بأن ربيعنا الثوري ضد نظم الديكتاتورية والفساد في أوطاننا هو نفسه خريف المشاريع المتطرفة. لقد كنا نحاجج أصحاب رؤية التغيير من خلال القوة بالقول: أنظروا كيف تمكنا بالطرق السلمية من إحداث التغيير المنشود، وكانوا يردون علينا بالقول: بل انتظروا حتى تروا بأعينكم كيف أن العالم الذي يسمي نفسه حرا لن يسمح لكم بالتغيير الذي تنشدونه، فقد كانوا يتنبأون بوقوف بعض الإدارات الغربية إلى جوار الثورات المضادة للديمقراطية من تحت الطاولة، ولما تحقق في الواقع ما تنبأوا به صارت حجتنا أمامهم أضعف، وصار نشاطهم أقوى.
من الخطأ الجسيم التفكير في مكافحة التطرف العنيف والإرهاب بالطرق الأمنية والعسكرية وحدها، خاصة في تلك المناطق التي يزدهر فيها الشعور بالقهر وغياب العدالة والحقوق والحريات. إن استخدام القوة المسلحة وحدها في هذه الحالة لا بد أن يؤدي إلى زيادة في مشاعر الإحباط والرفض والمقاومة من قبل الجماعات والأفراد الذين يوصفون بالتطرف، ومن الخير لهذا العالم أن يفكر في خطة شاملة لحل مشكلة التطرف، تأخذ في الاعتبار الأسباب الجذرية لهذه المشكلة، وفي مقدمتها أسباب الشعور بالقهر والإحباط والعدمية، وهي المشاعر التي تسود منطقتنا العربية على سبيل المثال، نتيجة هيمنة النظم السياسية المستبدة والفاسدة، ودعم الإدارات الغربية لها.
أصدقائي الاعزاء:
مشكلات العالم في هذه اللحظة كبيرة وخطيرة، ولم يعد مجديا التعامل مع هذه المشكلات باعتبارها تمثيلا عرقيا أو دينيا أو جغرافيا، نحن جميعا مسئولون أمام ضمائرنا وأمام الأجيال القادمة عن ما يجري وعن تداعيات ما يجري، وينبغي أن نفكر بطرق غير تقليدية وان نكون يدا واحدة في مواجهة مشكلة التطرف والإرهاب.
إنننا حين نقول انه من الخطأ نسبة التطرف والإرهاب إلى عرق بعينه أو إلى دين بعينه فإننا نستند في ذلك إلى حقيقتين على الأقل، الأولى حقيقة التاريخ الذي يتحدث إلينا بصوت مسموع قائلا: إن كل الجماعات والأمم قد شهدت حالات عديدة من التطرف والإرهاب، والأخرى هي واقع الدين نفسه، وأنا معنية هنا بالحديث عن الدين الذي أعرفه وهو الإسلام.. إن القرآن وهو الكتاب المقدس للمسلمين، في نصوصه الصريحة المتفق عليها، يضمن حرية الاعتقاد وحرية التعبير، ويقيم ذلك كله على أساس حرية الإرادة، فحرية الإرادة في القرآن هي أساس النظام الأخلاقي لهذا الدين، والقرآن صريح في هذا حين يقول على سبيل المثال "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، أي لا يجوز فعل الإكراه في مجال الإيمان، لأن الإيمان مبني على المعرفة، معرفة طريق الصواب وطريق الخطأ، والمعرفة لا تكون بالإكراه بل بالإرادة الحرة، والقرآن بهذا يذهب بالحرية إلى أبعد مدى ممكن، حيث تشمل حرية الاعتقاد وحرية الضمير أيضاً، هناك تكون الحرية مسئولية يتحمل الفرد وحده عبئها الأول.
كما ان علينا بيان حقيقة أخرى عن مخاطر الاستبداد وغياب حرية التعبير كما أسلفنا ومشاعر الإحباط والسخط المتنامية في الشارع العربي والإسلامي تقف سببا جوهريا في إنتاج التطرف والإرهاب، إلا أن المتطرف المتدين لا يمكنه أن يقدم على فعل إرهابي ما لم يكن هذا الفعل مبررا من قبل النص الديني، فهو حريص على شرعية ما يقوم به من الناحية الدينية، وهنا تطفو مشكلة مزدوجة، فمن ناحية هناك نصوص تعتقد طائفة كبيرة من المتدينين أنها تنتسب إلى الدين، في حين أنها في حقيقة الأمر آراء لمجتهدين في فهم الدين، أو روايات لا يعرف على وجه اليقين مصدرها، هذه الآراء وتلك الروايات قد يجد فيها المتطرفون ما يضفي الشرعية على أفعالهم الإرهابية، وما كان لهذه النصوص الزائفة أن تحتل هذه المكانة في قلوب الشباب لولا أن مؤسسة الاستبداد في البلاد الإسلامية تقاوم كل محاولة جادة لتجديد الخطاب الديني.. إننا أمام ثمرة أخرى من ثمار الاستبداد وغياب حرية التعبير..
اصدقائي الأعزاء:
ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع للميلاد، كانت الكلمة الأولى التي ترددت على لسان النبي محمد في القرآن هي "أقرأ" وهو فعل كلامي أيضا. والمدقق في الكتاب المقدس للمسلمين يجد أن حروب النبي محمد جميعاً كانت إما للدفاع عن النفس، وإما رفعا للقيود المفروضة على الحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير. وإذا تأملنا العرب من خلال لغتهم سنكتشف على الفور أنهم أمة كلامية بامتياز، لا تكاد تشبههم أمة أخرى في هذا المضمار، ففي لغتهم العربية ما يقارب الستة عشر ألف جذر لغوي. وهو ثراء ناتج عن اشتغال طويل في مجال الكلام واللغة.
ومن ثم فإن أقسى عقوبة يمكن أن يتعرض لها العربي هي منعه من الكلام والتعبير عن نفسه وقناعاته. وقد مارست بعض الأنظمة العربية نوعا من القمع الشديد على هذه الحريات، فكانت النتيجة ظهور جماعات عربية متطرفة الفكر تعمل في الظلام، والمؤسف أن دولا من العالم المؤمن بالحرية قد دفعت هؤلاء إلى التشبث بقناعاتهم المتطرفة حين خذلت هذه الدول مشاريع التحرر العربي المعتدلة، وحين وقفت في كثير من الأحيان إلى جانب الأنظمة المستبدة كما قلنا. وما دام العقلاء يعرفون أن التطرف العنيف لن يتوقف عند أسوار البلاد التي نشأ فيها، وأن بإمكانه أن يجد له مناصرين من أبناء العالم المتقدم نفسه، فإن من مصلحة العالم كله أن يتخذ تدابير عاجلة وشاملة لمكافحته. ولا بد أن يكون على رأس هذه التدابير مواجهة الاستبداد والقمع في المجتمعات الحاضنة للتطرف، ذلك لأن الحشائش الضارة لا تنمو إلا حيث تقطع الأشجار المثمرة.