كلمات
ألقت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان، اليوم، كلمة أمام مجلس اللوردات البريطاني بعنوان "الشرق الأوسط، يوجد قمع، لا يوجد ثقة" فيما يلي النص الكامل للكلمة:
في البداية، أود أن اعبر عن سعادتي بوجودي في هذا المنتدى الهام الذي يضم وجوها سياسية واعلامية واكاديمية مرموقة، ويناقش موضوعا مهما للغاية يتعلق بمستويات الثقة في السياسة ووسائل الاعلام.
الاصدقاء الأعزاء:
عندما علمت بأن الموضوع الرئيسي لهذا المؤتمر هو الثقة في عصر الحقائق البديلة، خطرت في بالي أشياء كثيرة، لكن أكثرها استفزازا هي ما إذا كان هناك لا يزال هناك ثقة يمكن أن تعطينا القدر الكافي من الاطمئنان على حياتنا ومستقبلنا.
حسنا، يمكن من خلال نظرة سريعة على أحوال منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي قدمت منها إليكم، القول إن الاضطراب يطال كل شيء، وان اللاستقرار هو الحالة السائدة، المواطنون دون حقوق، الحريات الاساسية كلها منتهكة، والحياة الكريمة غائبة ومغيبة، والصراعات والنزاعات تكاد تعصف بمعظم المجتمعات، في الحقيقة الجميع على صفيح ساخن.
لقد فشلت الحكومات بالقيام بواجبها، الفشل هو كل ما حصدته مؤسسات الحكم حتى الآن، فالفساد يتحكم في اتجاهاتها وسياساتها، فمنذ بعيد لم تعد تلك المؤسسات تقوم بدورها في خدمة المواطنين، لقد تحولت لمؤسسات قمع وجبابة والاستيلاء على المال العام لمصلحة الفرد الحاكم والعائلة الحاكمة، في هذه الفضيحة الكبرى، ليس هناك استثناء، هناك تفاوت وحسب، لذلك فإننا عندما ننظر في وجوه الناس في الشرق الأوسط، فإننا نرى مواطنين محرومين من الحقوق الأساسية، مقموعي الحريات منتهكي الكرامة.
إن فشل حكومات وأنظمة الشرق الأوسط ساهم في ضرب السلم الاجتماعي وخلق وتغذية الصراعات على أسس طائفية وجهوية وعشائرية، هناك احباط عام لدى المواطنين نتيجة فقدان الثقة بالأنظمة الحاكمة، مؤسسات وقيادات ونظم وتشريعات، هذا الاحباط العارم له ما يبرره، وباعتقادي لن يتسنى وضع حلول لأزمة الثقة المبررة هذه دون وضع معالجات جذرية للأسباب التي أدت
إلى ذلك، يجب أن نفكر في أن يكون لدينا قادة منتخبون، مؤسسات كفؤة ورشيدة، انظمة وتشريعات حديثة، هذا هو الطريق الآمن لتجنب الفشل والعنف والفساد والإرهاب.
لقد أدت ثورات الربيع العربي لتغييرات في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية السائدة في المنطقة، والتي كانت تتصف بالتخلف والعجز والفساد، فنشأت الأحزاب والمبادرات السياسية وتم انشاء العشرات من القنوات التلفزيونية والاذاعية والصحف، وصار الجميع يتحدث عن السياسة وعن حقوق الإنسان، وارتفعت نبرة انتقاد السلطة، لقد كانت المنطقة على وشك الولوج إلى عصر جديد، فقد أصبح المواطن العربي أكثر ميلا تجاه مؤسساته الجديدة سواء كانت سياسية أو اعلامية، وقد ساعدت وسائل الإعلام والاتصال التي افسحت مساحة واسعة للنقاشات الحرة لجميع الافكار والرأي في ترسيخ هذا الشعور.
لكن عودة الثورات المضادة مدعومة من قوى اقليمية ودولية الى الواجهة وتمكنها من الانقلاب على مسار ثورات الربيع العربي أطاح بكل تلك المنجزات، وعادت مشاعر الاحباط تسيطر على الناس، وتراجعت مستويات الثقة لدى المواطنين تجاه السلطات الانقلابية ووسائل الإعلام التي عادت إلى تضليل الرأي العام، والانحياز لوجهة نظر واحدة.
الأصدقاء الأعزاء:
يستمر المستبدون والحكام الفاسدون يزاولون مهامهم في نهب الثروات وانتهاك الحقوق والحريات العامة تحت سمع العالم وبصره، في ظل هذه الفظائع لا أحد يفكر بكبح المستبدين ومرتكبي المجازر بحق شعوبهم، حتى منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي يبدون تسامحا مريبا تجاه هذه الحكومات الاستبدادية.
بعيدا عن ماذا كان نوع من التواطؤ أو الفشل أو الاثنين معا، فإن النتيجة هي فقدان ثقة شعوب هذه البلدان في المنظمة الأممية ومجلس الامن والمؤسسات العدلية التابعة لها، كالمحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. إن استعادة الثقة بهذه المؤسسات الأممية العالمية مرهون بضمان فاعليتها وبتجاوز كل جوانب القصور ومسبباته، وفي هذا الإطار يجب مراجعة الآليات الأممية في اتخاذ القرار والقائم على التوافق الأممي بين الاقطاب لا على المبادئ والمعايير الإنسانية، وهو ما يؤدي إلى شل قدرة المنظمة الأممية على إداء مهامها في حفظ السلام العالمي وفي حماية حقوق الانسان وفي مكافحة الفساد.
نتيجة هذا الخلل الواضح في إداء المؤسسات الدولية، لم يتم وضع حد لجرائم بشار الأسد، لم تتم حتى ادانته بقرار أممي، لم يتم اتخاذ قرارات حاسمة تجاه الأنظمة والميليشيات التي تمارس القتل بحق خصومها دون وجه حق، وتجاه اعادة الأموال المنهوبة إلى الشعوب وفق اتفاقية مكافحة الفساد، لا عمل جاد في أي اتجاه.
يمكن القول إننا وجدنا أنفسنا أمام حزمة طويلة عريضة من المواثيق والمعاهدات والاتفاقية الانسانية انجزتها البشرية، لكنها مجرد حبر على ورق، مع أنها ملزمة، إلا أن تنفيذها ظل امرا طوعيا على الحكومات وحين يدوسونها، وكثيرا ما فعلوا، يمضي الأمر دون تبعات.
انعدام الثقة بالمنظمة الاممية وآلياتها ومؤسساتها انسحب إلى ازمة ثقة بجدوى المواثيق والعهود الدولية، لقد بدأ الكثيرون يتساءلون، لماذا نتعب أنفسنا في الحديث عن المواثيق والعهود الانسانية اذاً؟
لماذا نطمح لإنجاز المزيد من الاتفاقات والعهود الدولية اذا كان الخلل في غياب التنفيذ وعدم الالتزام وليس في شحة المعاهدات والاتفاقات والمواثيق الدولية؟ هناك سبعة قرارات صادرة من مجلس الأمن بخصوص العملية الانتقالية في اليمن، تم نسف العملية الانتقالية والانقلاب عليها، وبقى المقوضون والمعرقلون طلقاء، ما الذي فعلته محكمة الجناية الدولية لملاحقة مجرمي الحرب ومرتكبي المجازر ضد الإنسانية؟ لا شيء، لماذا لم تفعل شيئا، هناك خلل وقصور جوهري في آليات المحكمة يجعلها عاجزة عن اتخاذ القرار من جهة، وعن تنفيذه حين يحالفنا الحظ بقرار تصدره بملاحقة أحدهم.
كيف سيثق الناس بالمؤسسات الأممية ما السبيل لتجاوز ازمة الثقة هذه؟ الأمر بالطبع يحتاج إلى اصلاحات ومعالجات استراتيجية عميقة يجعل عمل المنظمة الاممية ومؤسساتها مرهون بالعدالة والانصاف وحقوق الانسان كما هي منصوص عليها في الميثاق والمعاهدات لا وفقا لأمزجة الاقطاب وتوازن القوى، الضحايا في العادة هم المحرومون من الاقطاب ومن قوى تمثلهم، مثل هذه
الاصلاحات ستتأخر كثيرا، صحيح الانسانية بحاجة ماسة لها لحماية البيئة والسلام العالمي ومكافحة الفقر ومناهضة الاستبداد واحترام حقوق الانسان، لكنها ستتأخر كثيرا.
لقد فشلت الحكومات الغربية التي تقدم نفسها كراعية للحقوق الديمقراطية في العالم ومدافعة عنها ان تكون كذلك، فقد ارتبطت بمصالح مع المستبدين والفاسدين ضاربة عرض الحائط بكل تلك الادعاءات. يمكننا أن نقول بكثير من الحزن والغضب إن علاقاتها مع حكومات منطقتنا لا تقوم بناءا على موقف هذه الحكومات من الفساد ومن انتهاكات حقوق الانسان، بل إن هذه الحكومات القمعية تقوم بقمعنا وتتوغل في الفساد والاستيلاء على المال العام، مستقوية بعلاقتها بالحكومات والانظمة الغربية، ولذا هناك ازمة ثقة كبيرة لدى الناس بمنطقتنا بالأنظمة الغربية، أزمة الثقة هذه كما هو واضح تستند إلى مبررات قوية.
الاصدقاء الاعزاء:
على الرغم من الافضلية الغربية في مجال الحكم الرشيد وحقوق الإنسان وحرية الصحافة واستقلالها، إلا أن الوضع في الغرب ليس مثاليا تماما، فهناك تعاون وثيق مع منتهكي حقوق الإنسان في العالم، وهناك استعداد للتعامل مع الحكومات الاستبدادية مقابل منافع اقتصادية. الحقيقة سيكون من الصعب انكار ذلك.
وقد أدى هذا السلوك الغريب باعتقادي إلى التأثير السلبي على حرية واستقلال الصحافة، فمع التفوق العسكري الغربي والميل للهيمنة ومهادنة الحلفاء المستبدين، تحول جزء كبير من عمل التلفزيون والصحافة إلى مجال الدعاية السوداء، وهو ما افقدها مصداقيتها التي كانت تتمتع بها في الماضي، ولم تعد اخبارها تحظى بتلك الثقة التي كانت تتمتع بها قبل ذلك.
الاصدقاء الأعزاء:
في عام 2011 خرج ملايين العرب للشوارع والساحات للمطالبة بإسقاط انظمة قمعية، كان المشهد حافلا بالتظاهرات غير المسبوقة، وبارتفاع سقف الطموحات، كانت اركان تلك الانظمة تهتز ويطالها التفكك، كان العالم يبدي قلقه كل يوم، لكن وسائل الإعلام الحكومية ومعظم وسائل الإعلام الخاصة غضت الطرف عن ما يحدث.
لقد أدرك المواطن العربي منذ وقت مبكر ومن خلال التجربة اليومية أن التلفزيون والاذاعة والصحف لا يمكن أن تخبره الحقيقة، سوف تخبره أي شيء إلا الحقيقة، لذلك كان هناك مقولة رائجة في الدول العربية مفادها، إذا أردت أن تعرف ماذا يدور في بلدك فقم بالاستماع إلى إذاعة لندن.
يعد انحدار مستوى الثقة في وسائل الإعلام من قبل الشعوب العربية موضوعا متأصلا وقديما، والسبب أن هذه الوسائل تعمل لإرضاء السلطة وحسب، حتى لو أدى الأمر إلى تزوير وتلفيق الأخبار والوقائع دونما أدنى شعور بالمسؤولية.
كان العالم البريطاني الكبير اسحاق نيوتن يعتبر ثقة الناس خير من محبتهم، الثقة تجلب المحبة والاحترام والتعاون والتسامح والعمل الجاد، ومن هنا، يمكن تفهم لماذا انجز العالم الغربي كل هذه الانجازات على صعيد حقوق الانسان والديمقراطية وحرية الصحافة والتنمية والتفوق العسكري والتكنولوجي. على عكس العالم العربي حيث يتم تخويف الناس وارهابهم من خلال قوانين
جائرة، لا يمكن ان ننتظر أي عمل جاد نحو تحقيق ديمقراطية أو تنمية، كما تعلمون فإن من المهم بناء الثقة بين أبناء أي مشروع لكي ينجح، لا يمكن لمجموعة من المتشككين والمتصارعين أن يصنعوا شيئا ذا قيمة.
اليوم ودون أن يكون ذلك مدعاة للفخر، يمكننا أن نعترف ان هناك ازمة ثقة عالمية تجاه كل شيء تقريبا، الدول والكيانات والجماعات والمؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والاعلامية، وهذا ما يزيد من المخاطر التي تهدد السلام والاستقرار في العالم، فانعدام الثقة في أي مجتمع يزيد من الشعور بالعزلة والاحباط والعنف، ويخلق بيئة مواتية لصناعة الشائعات وسهولة تلقيها وتصديقها، الثقة بالشائعات وبالقادة والمؤسسات الزائفة تحل محل الثقة بالقادة والمؤسسات الجديرات بالثقة، لقد جرى تفخيخ كل شيء، وازمة الثقة العالمية لها ما يبررها تماما، لذا يجب العمل على مستويين، جعل المؤسسات والقيادات جديرة بالثقة، وإجراء اصلاحات وتغييرات تطال تلك المؤسسات وادائها وآلياتها وهياكلها.
ومن الأثار السلبية لانخفاض مستوى مصداقية وسائل الإعلام بشكل عام، لجوء البعض إلى منصات اعلامية تتبع جهات متطرفة وغير واضحة الأهداف والتمويل، لمجرد أنها تتحدث بصوت مرتفع عن بعض القضايا المسكوت عنها، والتي لا تتناولها تلك الوسائل الإعلام نتيجة تقلص مساحة الحرية الممنوحة لها في هذا البلد أو ذاك.
لذلك، لا يوجد أفضل من دعم حرية الصحافة إذا أردنا كسر حلقة عدم الثقة في وسائل الإعلام. لنشجع تناول الاخبار بطريقة شفافة، يجب أن تقتنع الحكومات بحق الجمهور في المعرفة، هناك دول تحصل فيها احداث كبيرة ولا يعرف أحد كيف حصل ذلك. ماذا يبقى من الاعلام إذا لم يستطع أن يخبرنا ماذا حدث؟
الاصدقاء الاعزاء:
إذا كانت وظيفة الإعلام الرئيسية هي إعلام الناس بما يحدث، بمعنى إطلاع الجمهور على الأجوبة الضرورية التي تمكنه من معرفة تفاصيل حدث ما، فإن هناك وظيفة لا تقل أهمية عن إخبار الناس، وهي وظيفة تسليط الأضواء على الأفكار التي تموج في أوساط المجتمع، يجب أن تساعد وسائل الإعلام على طرح أسئلة تتعلق بالحرية والنزاهة ومحاربة العنصرية واحترام القانون.
لا ينبغي الخوف من وسائل الإعلام، ويجب التوقف فورا عن مضايقة الصحافة الجادة التي كونت علاقة جيدة مع الجمهور من قبل الحكومات والانظمة العربية، فأي تضييق أو مصادرة لحرية الإعلام والتعبير سوف يصب في مصلحة التطرف والاستبداد وانتهاك أبسط حقوق الإنسان في التعبير عن رأيه بطريقة سلمية.
لقد امتدت قوانين المنع إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا أمر يصعب تفهمه أو قبوله، كل شخص في العالم يمكنه امتلاك منصات خاصة به، يعبر من خلالها عن آرائه وافكاره، واحلامه، ومواهبه. إن من المهم التأكيد على ضرورة عدم قمع هذه النوافذ، تحت أي مسميات أو ذرائع.
من الناحية المهنية، هناك مشكلة حقيقية عندما تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بنشر اخبار يغلب عليها عدم المصداقية، لنكون حذرين من ذلك، لكن يجب أن نتذكر أن هناك مئات اللقطات والفيديوهات المهمة التي سجلتها كاميرات ومتابعات أشخاص عاديين تواجدوا بالمصادفة في مكان الحدث، الأمر الذي جعل منهم مصادر دائمة لكبريات وكالات الأنباء والتلفزيونات والصحف
في مختلف انحاء العالم.
في ظل وجود هذا العدد الكبير من وسائل الإعلام وزيادة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وفي ظل تطور مفهوم المواطن الصحفي، وفي ظل منافسة تزداد كل يوم، لم يعد بإمكاننا التساهل إزاء انعدام أو انخفاض مستويات الثقة والمصداقية على أي صعيد.
نحن نعيش في عصر يشهد تدفق كبير للمعلومات، ويشهد احداث سياسية كبيرة ومتقلبة، ولذا ليس من سبيل أمامنا سوى الاعتماد على مؤسسات ذات مصداقية، فهذا يجعلنا أقل عرضة للتضليل والخداع، وأكثر اقترابا من الحقيقة التي نحتاجها جميعا دون شك.
لكن هذا التوجه، لا يجب أن يقودنا كما اسلفت للتقليل من أهمية وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح الفرصة أمام كل شخص في العالم للتعبير عن ذاته، وهو ما يساعد في تشكيل رأي عام عابر للحدود والقوميات وعلى أسس انسانية وثقافية.
أتصور أنه بمقابل التسلط الذي تحرص الحكومات والانظمة القمعية على تسويقه باعتباره الطريق الوحيد للحفاظ على الأمن، يوجد تيار يتسع يوما بعد يوم للدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية.
يسعدني أن أكون منتمية لهذا التيار، لذا لا أمل من تكرار القول: الحرية حق للجميع، لا مكان للاستبداد والعبودية وتكميم الأفواه، فالمستبدون والارهابيون وجهان لعملة واحدة. هل لا يزال أحدٌ في هذا العالم ليس مقتنعا بذلك، لا أعرف، لكن سيكون العالم بخير لو تم مناهضة الاستبداد والارهاب معا باعتبارهما شر محض، وضد الإنسان، ووجوده، وحياته، ومستقبله.