كلمات
محاضرة الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان في جامعة سانت اندروز بعنوان: ماذا يحدث في اليمن؟ - اسكتلندا
في البداية أود أن أعبر عن سعادتي بالحديث معكم، اعرف أنكم اشخاص جديرون بالاحترام، وهذا سبب كافٍ ليكون لقاءنا مثمرا للغاية.
عندما طلب إليّ أن القي كلمة تدور حول ماذا يحدث في اليمن، لم افاجأ بهذا الطلب، فالوضع في اليمن معقد جدا، فكثرة الأحداث والتناقضات الهائلة التي تتسم بها مواقف الأطراف الفاعلة تصعب من عملية فهم ما يحدث بالنسبة للمراقبين من الخارج الذين غالبا لا يدركون طبيعة تلك الأطراف ومواقفها.
فكرت كثيرا في الطريقة المثلى للإجابة على هذا السؤال المباشر الذي يتميز بالوضوح والبساطة: ماذا يحدث في اليمن، ووجدت أنه من المناسب سرد الحكاية منذ البداية وباختصار غير مخل، مستعينة ببعض أجزاء من مقال لي كنت نشرته بمناسبة مرور عام على بدء الحرب.
الاصدقاء الاعزاء:
كما تعلمون، فإنه دائما ما يشار إليها بالبنان عند الحديث عن الدول الفاشلة والتي على وشك الانهيار، ولم يكن في الأمر أي مبالغة، فنظام المخلوع علي عبدالله صالح كان يقوم بكل السياسات التي من شأنها إفقار اليمن، وتنمية الفساد، وتأليب فئات الشعب بعضها على بعض، كان الوضع في اليمن بالغ السوء، وكان المخلوع يعتقد أنه يمكنه توريث نجله حكم اليمن، كان هذا يتعارض مع النظام الجمهوري، وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى خروج ملايين اليمنيين الى الشوارع للمطالبة بإسقاط نظام حكمه القائم على الاستبداد والمحسوبيات.
لا شك أن بعضكم يتذكر كيف قام اليمنيون بثورة سلمية عظيمة عام 2011، اتسمت بالسلمية وبمشاركة واسعة من النساء والطلاب، وقد أفرزت هذه الثورة السلمية الخالصة، عملية انتقال سياسي سلمي أيضا، حيث تم اختيار رئيس توافقي، وحكومة توافقية شارك فيها الجميع.
بعد ذلك، ذهبت جميع الأطراف إلى حوار وطني شامل، نوقشت فيه كل القضايا والمشكلات العالقة باستفاضة ومسؤولية. وبعد حوار استمر قرابة العام خرجنا بنتائج ومقترحات وتصورات توافق عليها الجميع، وبناء على ما تم التوافق عليه في مؤتمر الحوار الوطني تم صياغة مسودة دستور، حدث كل ذلك خلال عامين من بدء العملية الانتقالية وبمشاركة الحوثيين وحزب المخلوع.
وقبيل الذهاب للاستفتاء على مسودة الدستور بأسابيع كما كان مقررا، وإجراء الانتخابات المختلفة بناء على الدستور الجديد، قام الحوثيون وبمساندة لا محدودة من قوات المخلوع علي صالح باجتياح العاصمة صنعاء، وطرد الرئيس عبد ربه منصور هادي والحكومة التوافقية، ولاحقا تم اجتياح بقية المحافظات، فاحتلوا ودمروا المدن، وقاموا بقتل وخطف والاخفاء القسري لعشرات الآلاف من المدنيين والسياسيين والناشطين، وأغلقوا وصادروا وسائل الإعلام ومقرات الأحزاب، وسحبوا تراخيص منظمات المجتمع المدني، وأغلقوا مقراتها، وعطلوا معيشة اليمنيين، وزادوا من جوعهم ومعاناتهم!
وقد أصدر مجلس الأمن الدولي على إثر ذلك قرارين، تضمنا رفض الإجراءات الانقلابية، ومطالبة ميليشيا الحوثي بالانسحاب من المدن، وتسليم الأسلحة، والكف عن استخدام القوة، والتخلي عن الاستيلاء على مؤسسات الدولة، وطالبت القرارات الدولية الميليشيا بالقيام بكل ذلك بصورة فورية، وتوعدتها بإجراءات وفق البند السابع في حال عدم الاستجابة.
الذين يسألون كيف حدث هذا الحدث الجلل، كيف تم اسقاط العاصمة ومؤسسات الدولة، أود أن الفت عنايتهم إلى أن هذا الأمر لم تحدث فجأة، فخلال عامين-عمر العملية الانتقالية- تعرضت العملية الانتقالية لتخريب ممنهج وإعاقة مدروسة، كانت ميليشيا الحوثي تشارك في الحوار الوطني بالتوازي مع قضمها الأرض بالقوة، قطعة بعد قطعة، والاستيلاء على أسلحة الدولة، ومراكمة قوتها عبر استقبال العديد من سفن الأسلحة الإيرانية، والتي وقع بعضها بيد السلطة الانتقالية، وحين الجرد كانت الفاجعة كبيرة، ما تحوي تلك السفن من أسلحة مهولة جدا لا تملك مثيلاتها الدولة اليمنية، أما الرئيس المخلوع علي صالح، فقد كان يعمل دون كلل أو ملل في إعاقة وعرقلة العملية الانتقالية بأساليب شتى.
أخطاء كثيرة وقصور كبير ساعدا المخلوع علي صالح في نجاح مهمته التدميرية، أولها الحصانة الممنوحة له، وبقاؤه رئيسا لحزب يمتلك نصف المقاعد الحكومية، وبالإضافة إلى ذلك، فقد استثمر عشرات المليارات من الدولارات التي استولى عليها خلال عقودٍ؛ لتمويل عمليات تخريب وتقويض العملية الانتقالية.
أثناء ذلك، صدرت العديد من القرارات الدولية تدين المخلوع وتحذره من المضي في تقويض العملية الانتقالية وإعاقتها، وقد تضمنت هذه القرارات النص على حجز أرصدته ومنعه من السفر، وتوعدته باتخاذ إجراءات أشد إن استمر في إعاقة العملية الانتقالية، لكن كل ذلك لم يحُل بينه وبين مضيه في تدمير عملية انتقال السلطة في اليمن حتى يعود للحكم مجدداً، ولم يكن هذا ليحصل، أو يوافق عليه القسم الأكبر من اليمنيين.
من الأخطاء الفادحة أيضاً التي عقدت كثيراً من المشهد، استمرار سيطرة المخلوع على الجيش سيطرة كاملة، فقد ظلت ألوية الحيش التي بناها بعناية تدين بالولاء له ولعائلته، تحت قيادة نجله وأبناء أخيه وإخوانه خلال الفترة الانتقالية، وعوضاً عن قيامها بواجبها -كما يفترض- في حماية العملية الانتقالية من التقويض ومن العرقلة والإعاقة، كانت تغض الطرف عن العصابات التي تدمر الخدمات الأساسية وتعتدي على خطوط الكهرباء وأنابيب الطاقة، في الوقت الذي تفسح الطريق أمام الميليشيا لتستولي على الأرض وتستولي على أسلحة الجيش لواء بعد لواء ودون عناء يذكر.
وحين حاصرت جحافل الميليشيا الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي في بيته بالعاصمة صنعاء، في نهاية المطاف لم نسمع أن ضابطاً واحداً اعترض على الميليشيا وذهب ليقوم بواجبه في حماية الرئيس وقبله في حماية مؤسسات الدولة، لقد تمت عملية الاستيلاء على مؤسسات الدولة بالقوة، وإسقاط العملية الانتقالية بمباركة تامة من الجيش الموالي للمخلوع.
بقاء سيطرة المخلوع وعائلته على الجيش كان ينطوي على مخاطر عظيمة، ما كان يجدر أن تغيب عن رعاة العملية الانتقالية، كان يفترض بهم منذ اللحظة الأولى لتولي الرئيس الانتقالي السلطة، أن يعملوا على نقل قيادة المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية للسلطة الانتقالية التي تولوا رعايتها، كان ذلك إجراءً بالغ الأهمية نصت عليه اتفاقية نقل السلطة، وكان سوف يمنع انزلاق الأمور إلى الفوضى والحرب.
تم منح علي صالح حصانة من المساءلة عن جرائمه خلال فترة حكمه، ربما أراد الرعاة بذلك أن تكون الحصانة مقابل تخليه عن العمل السياسي، في النهاية حصل على الحصانة ولم نحصل على المقابل. كانت الحصانة محل رفض شباب الثورة ونشطاء المجتمع المدني، كنا نعلم أن من يضحي بالعدالة من أجل السلام يخسرهما معاً.
بعد إفلات الرئيس الشرعي من الإقامة الجبرية التي تم فرضها عليه، وتوجهه إلى عدن جنوب البلاد لممارسة مهامه وصلاحياته الدستورية، قررت ميليشيا الحوثي والمخلوع ملاحقته وقتله، وهو الأمر الذي جعله يهرب إلى العاصمة السعودية الرياض، ما حدث لاحقاً كان تدخلاً خارجياً من قبل التحالف العربي والمسنود ضمنياً بقرار مجلس الأمن، ومقاومة شعبية امتدت في معظم المحافظات، لم يكن ليقبل أحد بتقويض العملية السياسية، وبتحول اليمن إلى ولاية إيرانية.
منذ الأيام الأولى لاقتحام العاصمة أطاحت الميليشيا بكافة المكتسبات التي حققتها ثورة 11 فبراير السلمية، حين جلبت حرية صحافة وتعبير تكاد تكون مطلقة، وحرية مطلقة في التظاهر والاجتماع والتنظيم، وحرية مطلقة لعمل منظمات المجتمع المدني، وحرية امتلاك وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية دون قيود للأفراد والمنظمات والأحزاب، كل ذلك الهامش الواسع الذي عاشته اليمن بعد الثورة خلال عامين من العملية الانتقالية، وحتى يوم اجتياح صنعاء، تم الإطاحة به تماماً.
بعد ثلاثة اعوام من الحرب التي أكلت كل شيء تقريبا، موظفو الدولة بلا رواتب منذ عام، انتشار للأمراض والأوبئة، انهيار الخدمات كامل للخدمات مثل الصحة والكهرباء، ما يزال الوضع على حاله، بل ازداد سوءا نتيجة التخبط وغموض السياسات التي يتبناها التحالف العربي، فدولة الامارات العربية المتحدة تقوم برعاية ميليشيات خاصة بها في اليمن، وتنشئ سجون لتعذيب الذين يعتقد أنهم يعارضون سياساتها أو قد يعارضون سياساتها في المستقبل. الأدهى من ذلك والأمر، إن حكومة أبو ظبي تمنع وصول رئيس الجمهورية هادي من العودة إلى اليمن، وتمنع السلطات الشرعية من القيام بأعمالها في المحافظات الجنوبية، يردد المسؤولون الاماراتيون تهديدات مستمرة بأنهم سوف يدمروا اليمن، وللأسف تغض السعودية التي تتزعم التحالف العربي الطرف عن كل ذلك، كما ترون، يقع اليمن الآن بين مطرقة انقلاب فاشي سلالي يؤمن بفكرة الاصطفاء الالهي مدعوم من ملالي إيران، وبين سندان تحالف عربي يعمل من أجل مصالحه وحسب، ويقوم باستغلال ضعف اليمن أسوأ استغلال.
لا سبيل للخروج من هذه الدوامة الجهنمية إلا، باستعادة الدولة ومؤسساتها، لا يمكن لليمن أن يعيش تحت سلام زائف، يجب تجريد الميليشيات من أسلحتها، ويجب تقديم منتهكي حقوق الإنسان والمهتمين بجرائم الحرب إلى العدالة الدولية.
إن على أي خارطة طريق أو مبادرة أو مقترحات تقدم لحل للنزاع والحرب في اليمن، يجب أن تجعل غايتها الاستراتيجية إقامة دولة تكون صاحبة الحق الحصري في امتلاك السلاح، وتحتكر الحق في السيطرة والسيادة على جميع المناطق.
إن هذا يستدعي قيام أحزاب سياسية دون سلاح، وحياة سياسية دون ميليشيا، ومواطنين يتمتعون بحرياتهم وحقوقهم الأساسية، هذا جوهر ما توافق عليه اليمنيون في الحوار الوطني، وقبل ذلك تضمنته اتفاقية نقل السلطة في اليمن، كما أكدت عليه قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة في اليمن، أضف إلى ذلك، أن هذا هو المنطق الذي لا يمكن تجاهله.
إن بناء عملية سلام حقيقية في اليمن تتطلب الاتفاق على خارطة واضحة تأخذ بالحسبان كل ما سبق، توافقات اليمنيين أثناء الفترة الانتقالية، وما نصت عليه قرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومنها قرار 2216.
يتوجب وفق هذه الخارطة، أن يتم البدء بإيقاف شامل لإطلاق النار، بالتزامن مع عودة الرئيس والحكومة إلى العاصمة صنعاء، وانسحاب الميليشيا من كافة المناطق وتسليم كافة الأسلحة وفق آليات فاعلة تشرف عليها الأمم المتحدة، ومن قبل رعاة العملية الانتقالية.
سيكون من المهم أيضا تمكين ميليشيا الحوثي من الحق في التحول إلى حزب سياسي يحقق أهدافها دون استخدام القوة ودون اللجوء إلى العنف، وفي إطار الدستور والقوانين النافذة في البلاد. نحن لسنا بصدد إقصاء أحد، لكن من غير المسموح السماح لأي جماعة أن تبشر برؤية عنصرية تتصادم مع مبادئ المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، وامتلاك السلاح.
سبق أن دعوت لحصول الحوثيين على ضمانات تمنع تعرضهم للإقصاء أو الانتقام أو الحرمان من مزاولة العمل السياسي مثلما ادعو لحصول بقية الأطراف على تلك الضمانات، فليس من حق أي دولة تعاني أزمة نفسية أكثر منها سياسية مع الاسلاميين أن تعمل على محاربتهم في بلادنا، نحن بلد تنوع وتعدد، ومن يخطئ تتم محاسبته وفق القانون وليس وفق مزاج هذا أو ذاك.
بعد ذلك يجب الذهاب للاستفتاء على مسودة الدستور التي تم صياغته وفق مخرجات الحوار الوطني الشامل، وإجراء الانتخابات المختلفة المحلية والأقاليم والنيابية والرئاسية بناء عليها.
إن اليمن تمر بمرحلة صعبة للغاية، الجراح كبيرة وكثيرة في آن، لذلك يجب وقف الحرب بطريقة لا تجعلها تعود مرة أخرى، لم يعد بإمكان اليمنيين انتظار حروب جديدة، لذا أدعو إلى سلام شجاع وحقيقي، سلام يضمن استعادة الدولة ومؤسساتها، اسقاط الانقلاب وكل ما ترتب عليه، البدء بمصالحة وطنية شاملة، الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي، هذه الخطوات سوف تشيع التسامح، إذ لن تبقى اليمن ساحة للحروب والصراعات، أما البحث عن حلول وقتية، فهذا خداع، لأن الالام سوف تستمر والحرب أيضا سوف تكبر أكثر وتتوحش.
اليمن يستحق السلام، ويستحق أن يأخذ مكانه بين الأمم، فماضيه العريق وروح شعبه الواثقة بالمستقبل يقولان لنا: إنه لا ينكسر ولا يذهب مع الريح.