اصداء
تَوكل اليمانية وهناء أَدور العراقية!
بقلم: رشيد الخيّون
ما بين توكل كرمان وهناء أدور جائزتان عالميتان، وكفاح ضد الألم الذي يُمارس تحت ظلال الديمقراطية، مع تعرض حقيقي للمخاطر. ناهيك عن أنهما امرأتان وما يعنيه الموقف من النساء، فهن مازلنَ يُطعننَ بعقولهنَّ ألا يتولينَ القضاء، بالمناطق التي تتحكم فيها فروع الدِّين. كم حصل من تراجع باسم الديمقراطية على الأحوال الشخصية!
لقد أُلغي قانون عدن باستحواذ قبلي وديني، مثلما أُلغي بالعراق باستحواذ الإسلام السياسي، فليس الأخير أولوية مثل شطب هذا القانون المعاصر. العام الذي وضعنا فيه أقدامنا باليمن (1979)، قريباً من تَعِز، ولدت للقانوني عبد السلام كرمان ابنة سيُفاخر بها عبر الأجيال. بلغت توكل (11) عاماً عندما أُعلنت الوحدة، المشروطة بالديمقراطية (1990)، وكان المفروض أنه بعد 21 عاماً، من ذلك التاريخ، وحتى حصولها على النُّوبل (2011) تكون توكل قد تنعمت بالديمقراطية، لا تعتقل وتُهدد بالقتل. مثلما لعب صالح وحاشيته على حبل الديمقراطية، فلولاها ما أقنع الجنوبيين بالتنازل عن دولة عامرة بأرضها ومؤسساتها، كذلك لعبت القوى الحزبية العراقية على الديمقراطية، مع أنها كانت هدية لا يجود الزَّمان بمثلها، قدمها الأميركان. وعادوا نادمين عليها، لكن الطمع بعقارات الخضراء أفسدتها، بعد أن حال الأميركان دون انتصار "القاعدة" المؤكد لولا وجودهم، إلا أن الأَصوات أخذت اليوم بالتباري لتحرير البلاد من آخر جندي أميركي حتى لمهام التدريب، لإثبات الوطنية الضائعة. لو نظرتَ إلى البرلمان العراقي لوجدت 18 نائباً هم المنتخبون، وبعد انسحاب جعفر الصَّدر، لأن ضميره لا يتسع لتلك الألاعيب وهي تربية والد كان صارماً مع النَّفس، لم يبق سوى 17 نائباً. فتصوروا أن 307 نواب ليسوا منتخبين. ونسأل أين وعد وزير التجارة بكشف التلاعب بأسماء البطاقة التموينية؟!
اعتُقلت توكل اليمانية لأنها صرخت ضد الفساد بصنعاء، الذي ينخر بالدولة اليمنية حتى صارت الديمقراطية مركوباً للفاسدين. فتحت حماية أمنية مفرطة يعتقد الفاسدون أنهم مؤيدون، فليصرخ الصارخون وليكتب الكاتبون، فالسياسة التي تُحافظ على ديمقراطية هشة هي صم الحكومة لآذانها، كي لا تسمع، وغمض عيونها كي لا ترى. إنها ديمقراطية الكلام وكفى، ومن تعدى الحدود فهذا، وأعني السَّيف!
كذلك ببغداد ليكتب من يكتب، بشرط عدم التجاوز إلى القطط السمان، لذا أُعتقل هادي المهدي (اغتيل 2011) لما جعل نفسه نداً لهؤلاء، متحدياً حاشية مجلس الوزراء ومكتبه، المحمي بأحمد نوري المالكي، مثلما أَمن صالح محمي بأحمد علي عبد الله صالح. ولما لم ينفع الاعتقال كان كاتم الصَّوت علاجاً، ووعد مدير شرطة بغداد بتشكيل لجنة تحقيق، وانطوى شهران ولا لجنة، وكأن لسان حال المهدي ينشد، وهو الهارب من ضيم السابقين، في لحظة اعتقاله واغتياله، لإبراهيم الصُّولي (ت 243 هـ): "وكنتُ أعدك للنَّائبات.. فها أنا أطلبُ منك الأَمانا". وبهذا لا فضل لـ"دعوة" على "بعث".
وقفت هناء أدور، العراقية الوطن والبصرية المولد، ممثلةً للمجتمع المدني، الذي أرادت رئاسة الوزراء إفراغه من محتواه بجعله وزارة، شأن المرأة والمصالحة، مدافعةً ضد اعتقال المهدي وصحبه، ممن اعتُقلوا وقبلها ضربوا بالحملة المصرية نفسها في ساحة التحرير، وأمام الكاميرات رأينا كيف تعامل المالكي بتعال مع أَدور، عندما واجهها بإشارة الطرد بكفه، وكأنه ينش الذباب عن وجهه. كانت هناء أدور الفائزة بجائزة "السَّلام" (2011) تحمل همَّ المعتقلين والديمقراطية، بينما كان المالكي يحمل هم الحاشية وأمن الخضراء. لم تأت هناء من قارعة الطريق إلى السياسة، ولم يسبق لها ممارسة ترتيب التفجيرات خلال معارضتها للسلطة السابقة، فهي لا تؤمن بقتل المدنيين بدعوى التَّترس: إذا فَجرتَ سفارة أو بناية فلا تفكر بمن سيُقتل، بل فكر بالهدف. لم تعرف هناء حياة الرَّاحة إنما عاشت، وما زالت تعيش، وسط المخاطر. ناضلت كطالبة ضد الفاشية وصعدت الجبل لمقارعة الدكتاتورية، ثم نذرت حياتها ومنذ 1992 لزرع الأمل، فأسست جمعية "الأمل". لم تُشيد داراً، ولم تنام على ثروة فاسدة في العقارات والبنوك، ولم تتفوه بكلمة تستغل بها طائفتها من أجل مصلحتها، إنما وضعت العراق في سويداء القلب.
نعرف العديد من أصحاب الشأن أسسوا جمعيات أيتام، لكنهم لعبوا على الخير، واستغلوا تضامن أخيار العالم مع المجتمع العراقي في أيام الحصار (1990-2003)، فأقاموا جمعيات، وأُكتشف أن الخير تحول إلى أملاك بالشام وطهران.
حازت توكل كرمان جائزة نوبل، لدورها في منظمات المجتمع المدني، تلك الجائزة التي دفع الندم صاحبها ألفريد نوبل (ت 1896) مخترع الديناميت لتأسيسها، ومنذ 1901 والجائزة تمنح لأصحاب العقول والمواقف. لكن خطورة الاختراع أخذت بالتعاظم، فما إن اجتمعت بفتاوى القتل حتى صارت سلاحاً دينياً بيد جماعات الإرهاب، أخذت تُخفى تحت العمائم. آخر الحاصلين عليها توكل اليمانية، لجهودها في التغيير والتخفيف من معاناة ديمقراطية جائرة. بالمقابل منح مكتب السلام العالمي جائزة «شون ما كبرايد» للناشطة في المجتمع المدني هناء أدور، ومكتب "السلام" تأسس 1892. ومنذ 1992 أخذ يمنح الجائزة للفاعلين من أجل السلام وحقوق الإنسان، وكان المكتب نفسه نال جائزة نوبل 1910، وإن أحد أبرز مديريه «شون ما كبرايد» نالها1974.
منحت الجائزة لعمدتي هيروشيما وناجازاكي 2006، وللسريلانكية داهانابالا 2007، وللأميركية ريردن 2009، وللهندية لاكشمي 2010، والعراقية أدور 2011. لم تحصل عليها هناء بصفقة محاصصة أو مداهنة، فالمؤسسة المانحة ليست طارئة، إنما يمنحها مكتب تعدى عمره 119 عاماً.
إنه عام الانتصار الكبير للمرأة بمنطقتنا، تمثل دولياً بجائزتين مرموقتين لتوكل اليمانية وهناء العِراقية، لكفاحهما من أجل بناء مجتمعات مدنية. يخطأ من يفكر بأن لا أهل اليمن ولا أهل العراق لهما في التمدن!
لا وألف لا، العراقيون نزلوا إلى الانتخابات على أمل بدولة قانون، وما توقعوا أن القانون صار عليهم حوتاً يبتلعهم بالفساد. وناضل أهل اليمن لشهور بالكلمة، مع أن كل واحد منهم يشد في وسطه "جنبية" (خنجر)، وليس أرخص من السلاح الخفيف والثقيل، وها هم انجبوا امرأةً راقيةً مثل توكل. لكن غريزة التأبيد في السلطة أفسدت الديمقراطية ببلاد توكل كرمان، مثلما غريزة الغنيمة وافتراس الثروة تفسد الديمقراطية ببلاد هناء أدور.
لقراءة المقال في صحيفة "الاتحاد" الاماراتية اضغط (هنــــــــــا)